كنت أجلس فى السيارة إلى جوار طارق المصرى، أحد رجال الأعمال الناجحين فى برلين، وكنا فى طريقنا إلى مقهى جورج.. سألته لماذا لا يستثمر جانباً من أمواله فى مصر، انفجر ليحكى لى عن مهزلة تخصيص أرض لمشروع سياحى فى مرسى علم، وكيف اتبهدل مع شركائه الألمان على يد عصابة البيروقراطية والتطفيش والفساد، مماطلة فى تسليم الأراضى، ثم تلاعبات من بعض رجال البنوك ومساومات وقحة، القرض خمسون مليوناً تقبضه أربعين مليوناً، طب والعشرة مليون؟!
(رسوم تخليص يا مان)، وصلنا المقهى وبدأ توافد شخصيات مصرية ظريفة، منهم الدبلوماسى ومنهم الصحفى ومنهم الأكاديمى ومنهم الطبيب، دخلوا جميعاً ماتش طاولة ساخناً جداً مع جورج، ووسط التعليقات والقفشات، كنت أشتبك مع بعضهم فى أحاديث جانبية، حكى لى «جونى»، مدير المقهى، عن طفولته فى مدارس الفجالة والظاهر، وكان يتحدث وهو فى حالة من نشوة الذكريات الجميلة التى مر عليها خمس وأربعون سنة، قلت له لو عاد الزمان وكان لك أن تختار، قال على الفور أختار حياتى فى مصر وليس فى ألمانيا طبعاً..
كانت شلة مؤانسة خفيفة الدم تفاجئك بأنها تتابع أحوال مصر بداية من أزمة غزة وحتى أنفلونزا الطيور والخنازير، ويصيح أحدهم فجأة، ضاعت عليك العشرة.. العب.. العب، وتنفجر الضحكات فى كل مكان ويتبادلون الأدوار مواصلة للتصفيات، اشتبكت فى الحديث مع الدكاترة وسألتهم كيف ننقل التكنولوجيا الألمانية والتقدم الطبى إلى مصر؟
قالوا لى إنهم يحاولون، وهناك أجهزة طبية ومعدات قلب وغسيل كلى تتبرع بها جامعات ومستشفيات ألمانية كبرى إلى أسوان والوادى الجديد، ولكنها مبادرات شخصية، والأمر يحتاج إلى اتفاقيات على مستوى رسمى رفيع، وتطرق الحديث إلى فرص الشراكة مع ألمانيا وانفتاحها على العالم وتقديرها الخاص لنجاحات بعض المصريين فى ألمانيا، مثل المهندس هانى عازر، الذى قام بتنفيذ مشروع محطة السكة الحديد الألمانية فى شكل معمارى حداثى زجاجى مدهش ومتفاعل مع المنطقة السكانية والعمرانية المحيطة بها، كما حكوا لى عن الدكتور إسماعيل العبقرى المصرى الآخر الذى ساهم فى إنجاز بعض المشروعات التكنولوجية المتقدمة فى ألمانيا.
مصر كانت حاضرة فى كل مكان فى أحاديثنا العفوية، يعيشون فى ألمانيا بعقولهم وأجسادهم ولكن قلوبهم فى مصر، عاد رجل الأعمال يحدثنى عن أحلامه بالعودة إلى مصر وبحثه عن مشروع جديد ومنطقة سكنية مناسبة، وأعرب لى عن حيرته، قلت وما الذى حيرك هكذا؟!
قال سمعت أصدقائى فى مصر يتحدثون عن مشكلة الإسعاف الطائر وكيف أنها معضلة ولابد من موافقات أمنية عويصة، وأن حالات كثيرة كان يمكن إنقاذها لو توفرت إمكانيات الإسعاف السريعة والمناسبة، وفوجئت بأصدقائى ينصحوننى قائلين: المستشفى قبل مكان السكن، ويقولون اسكن جنب مستشفى مجهز حتى يتم إنقاذك فى الوقت المناسب، استغربت هذه النصيحة العجيبة والجديدة من نوعها، وطلبت من الله الستر والعافية،
وتذكرت نكتة البالوعة التى كانت تبلع المارة فيطلبون عربة الإسعاف فتتأخر ويموت الضحايا، واحد ينصحهم بأن يوفروا عربة إسعاف دائمة جنب البالوعة، وآخر قال: لا بل يبنون مستشفى طوارئ جنب البالوعة، وأخيراً قال أحدهم. الأوفر والأسهل أن نحفر مكان للبالوعة جنب أقرب مستشفى.