سماحة الإمام الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز : الحمد لله ، والصلاة
والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه ، أما بعد : فإن
الله - سبحانه وتعالى - حكيم عليم فيما يقضيه ويقدره ، كما أنه حكيم عليم
فيما شرعه وأمر به ، وهو - سبحانه - يخلق ما يشاء من الآيات ، ويقدرها
تخويفًا لعباده وتذكيرًا لهم بما يجب عليهم من حقه ، وتحذيرًا لهم من الشرك
به ومخالفة أمره وارتكاب نهيه كما قال الله - سبحانه - : ﴿ وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ﴾ . [ الإسراء : 59 ] ، وقال - عز وجل - : ﴿
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ . [ فصلت : 53 ] ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ
بَعْضٍ ﴾ . [ الأنعام : 65 ] . الآية .
وروى البخاري في " صحيحه "
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال : لما نزل قول الله تعالى : ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ . قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : ( أعوذ بوجهك ) ، قال : ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ ﴾ . قال : ( أعوذ بوجهك ) .
وروى أبو الشيخ الأصبهاني
عن مجاهد في تفسير هذه الآية : ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ . قال : ( الصيحة والحجارة والريح )
. ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ . قال : ( الرجفة والخسف ) .
ولا
شك أن ما حصل من الزلازل في هذه الأيام في جهات كثيرة هو من جملة الآيات
التي يخوف الله بها - سبحانه - عباده . وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل
وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعًا من الأذى ، كله بأسباب الشرك
والمعاصي ، كما قال الله - عز وجل - : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ . [ الشورى : 30 ] ،
وقال تعالى : ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ
مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ . [ النساء : 79 ] ، وقال تعالى عن
الأمم الماضية : ﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا
وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ ﴾ . [ العنكبوت : 40 ] .
فالواجب على جميع المكلفين من
المسلمين وغيرهم ، التوبة إلى الله - سبحانه - ، والاستقامة على دينه ،
والحذر من كل ما نهى عنه من الشرك والمعاصي ، حتى تحصل لهم العافية والنجاة
في الدنيا والآخرة من جميع الشرور ، وحتى يدفع الله عنهم كل بلاء ،
ويمنحهم كل خير ، كما قال - سبحانه - : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
. [ الأعراف : 96 ] ، وقال تعالى في أهل الكتاب : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ . [
المائدة : 66 ] ، وقال تعالى : ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ .
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ ﴾ . [ الأعراف : 97 - 99 ] .
وقال العلامة ابن القيم -
رحمه الله - ما نصه : ( وقد يأذن الله - سبحانه - للأرض في بعض الأحيان
بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام ، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية ،
والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله - سبحانه - ، والندم كما
قال بعض السلف ، وقد زلزلت الأرض : " إن ربكم يستعتبكم " .
وقال عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد زلزلت المدينة ، فخطبهم ووعظهم ، وقال : "
لئن عادت لا أساكنكم فيها " ... ) . انتهى كلامه - رحمه الله - .
والآثار في هذا المقام عن السلف كثيرة .
فالواجب
عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف ، والرياح الشديدة ، والفياضانات
البدار بالتوبة إلى الله - سبحانه - ، والضراعة إليه وسؤاله العافية ،
والإكثار من ذكره واستغفاره كما قال - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف : (
فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره ) .
ويستحب -
أيضًا - رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم لقول النبي - صلى الله عليه
وسلم - : ( ارحموا ترحموا ) ، ( الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من لا
يرحم لا يرحم ) .
وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة : أن يتصدقوا .
ومن
أسباب العافية والسلامة من كل سوء ، مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي
السفهاء ، وإلزامهم بالحق وتحكيم شرع الله فيهم ، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر كما قال - عز وجل - : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ . [ التوبة : 71 ] ، وقال - عز وجل - : ﴿
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ . [ الحج : 40 - 41 ] ، وقال - سبحانه - : ﴿ وَمَنْ
يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ . [ الطلاق :
2 - 3 ] . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وقال - صلى الله عليه
وسلم - : ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) . [ متفق على صحته ] ،
وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس
الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في
الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في
عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . [ رواه مسلم في " صحيحه " ] .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
والله المسؤول أن يصلح أحوال
المسلمين جميعًا ، وأن يمنحهم الفقه في الدين ، وأن يمنحهم الاستقامة عليه ،
والتوبة إلى الله من جميع الذنوب ، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعًا ،
وأن ينصر بهم الحق ، وأن يخذل بهم الباطل ، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله
في عباده ، وأن يعيذهم وجميع المسلمين من مضلات الفتن ، ونزغات الشيطان ،
إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .