قاعده شريفه . نعيم القلب وشقائه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه قاعدة شريفة عظيمة القدر، حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، والنفس، وإلى الروح التي بين جنبيه، مستفادة من كلام شيخ الإسلام، وفيها فوائد من كلام تلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى-.
فنقول: إن كل عبد، بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير، محتاج إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب.
فلابد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود، والمانع لحصول المكروه أو الدافع له بعد وقوعه.
فها هنا أربعة أشياء:
1- أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
2- أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
3- الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
4- الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه أربعة أمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا ثبت ذلك فبيان ما ذكرنا من وجوه:
1- الله هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وعلى دفع المكروه؛ فهو -سبحانه- الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه؛ قال -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)، فالعبودية تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان: هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى الألوهية، والثاني: من معنى الربوبية.
2- أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته... الخ، وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم، وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وهذا مبني على أصلين:
أ ـ عبادة الله والإيمان به غذاء الإنسان، وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن لا كما يقوله من يقوله إن عبادته تكليف ومشقة، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم.
ب ـ كمال النعيم في الدار الآخرة أيضًا به -تعالى- مثل: النظر إليه كما في المأثور: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّة) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، فاللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق -تعالى- أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل الإيمان وأهل السنة والجماعة وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويزيد ذلك ويقرره:
3- إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع… الخ، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه، وأسبغ عليه نعمه، وتحبب إليه مع غناه عنه، وهذا يقتضي التوكل عليه والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبته وعبادته؛ لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبده وأحبه، وتوكل عليه من هذا الوجه؛ دخل في الوجه الأول.
4- إن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، وكل من أحب شيئًا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببًا لعذابه؛ فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقرار أن كل من أحب شيئًا دون الله لغير الله؛ فإن مضرته أكثر من منفعته، وعذابه به أعظم من نعيمه؛ فصارت المخلوقات وبالا عليه، وإلا ما كان لله وفي الله فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ الله وَمَا وَالاَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
5- اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته؛ فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خـُذل، ولما كان غاية صلاح العبد في عبادة الله وحده واستعانته به وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته.
6- إن الله غني عن عبادة عباده؛ فالرب -سبحانه- يريدك لك ولمنفعتك بك لا لينتفع بك، وذلك منفعته عليك بلا مضرة، بل رحمة وإحسانًا وجودًا محضًا؛ فإنه رحيم لذاته، محسن لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته... الخ. وهذا بخلاف الخلق كلهم فتدبر هذا.
7- إن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك؛ فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها؛ فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجاتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك؛ فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم، ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم، ولم يخفهم في الله، وأرضى الله بسخطهم، ولم يرضهم بسخط الله، وآثر الله عليهم، ولم يؤثرهم على الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب الله وخوفه ورجاءه فيه؛ فهذا هو الذي يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحًا بشرط أن يصبر على أذاهم، ويتخذه مغنمًا لا مغرمًا، وربحًا لا خسرانًا.
8- إنه إذا أصابك مضرة فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ومشيئته وقدره، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك؛ فالله هو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107).
9- أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، وكذلك لو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك؛ فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله؛ فلا تعلق بهم رجاءك، وإذا كانت هذه حال الخليقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك؛ ولا قادر عليها؛ ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك من الناس أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك؛ ولا قادرًا عليها؛ ولا مريدًا لها؛ والله -سبحانه- هو الذي يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم؛ كما في حديث الاستخارة: (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ) (رواه البخاري)".
ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
"والمقصود أن إله العبد الذي لابد له منه في كل حالة، وكل دقيقة، وكل طرفة عين فهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل، الذي أينما كان فهو معه، وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة، ولا حاجة، بل هي فوق كل ضرورة، وأعظم من كل حاجة، ولهذا قال إمام الحنفاء: (لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) (الأنعام:76)" (طريق الهجرتين (1/121) ط. عالم الفوائد).
وقال أيضًا: "وجماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي؛ فغيرك أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها، والله -سبحانه- هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة، ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليه، واستغنائه به بحيث إذا أخرجه أثـَّر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل، والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته؛ فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك، وهذا هو الأغلب على الخليقة" "السابق".
مراجع الموضوع:
1- المجلد الأول من مجموع الفتاوى "قاعدة في توحيد الألوهية".
2- طريق الهجرتين "1/116".
3- الفوائد لابن القيم.
4- إغاثة اللهفان "الباب السادس".
م/ن