(قراءة شرعيَّة في واقع كثير من المجتمعات مع قضيَّة التدين)
بقلم / أ. خباب الحمد .
الحمدُ لله وحده، وسَمِعَ الله لمن حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعدُ:
فأثناء مسيرة الإنسان في هذه الحياة لا ينفكُّ- طوعًا أو كرهًا - عن مطالعة طبائع الناس، وطرائق الشعوب، وتعاملات الأمم بعضها مع بعض، غير أنَّ الهم الذي يحتوي مجامع قلب كلِّ مؤمن، حينما يُشاهد ترهل حالة التديُّن داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وكذلك في أقاليم إقامة الجاليات الإسلاميَّة في الدول غير الإسلامية.
لقد صار كثيرٌ من الناس يتعاملون مع الدين لأجل مصالحهم الخاصة، وذلك لأنَّ التديُّن عندهم عادة لا عبادة، وعرفاً وتقاليد لا عقيدة وشريعة، وتديُّن مصلحة فحسب، لا قياماً بواجب التدين ومصلحة القيام به.
لا جرم أنَّ ما يدعو إليه كثيرٌ من الناس الآن في طبيعة تعامُلهم مع التديُّن يُخالفُ تمامًا ما كان يدعو إليه وينصاع له جيلُ الرعيل الأول من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين تشرفوا بالقرآن المُنزَّل في وقتهم، فلم يكنْ هذا الدينُ عندهم إلاَّ على حالته التي عُرِف بها:
(الدين المنَزَّل)
،بعيداً عن أن يكونَ مِن قبيل المبدَّل أو المؤوَّل، ولهذا نرقب حالة سماع الصحابة للوحي، فلا تنطق ألسنتهم إلا بقوله تعالى:
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
.
[البقرة 285]
إنَّ مَنْ فَهِم حقيقة الإسلام يعلم أنَّ هذا الدين تكمُن رَوْعتُه في حيويته، وطلاوته في فهم معاني آياته، وسعادة أمَّة الإسلام بالتزام ما أنزله الله تعالى على رسوله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ لو أنَّ كل شخص أخَذ مِن الدين ما يشتهيه قلبُه، وتهواه نفسه؛ لما شعر بطعم التديُّن الحقيقي الذي يشعر به كلُّ مَنْ تمسَّك بأهداب الدين، حيث يشعر بطعم الإيمان وحلاوته التي لا يعرفها إلا من ذاقها بروحه ونفسه.
لقد قرَّر عُلماء الإسلام أنَّ كلَّ خيْرٍ للعباد يكْمُن بطاعة الله - عزَّ وجل - وكل شر فإنَّه يجتمع حول معصيته سبحانه وتعالى.
إنَّ شرائع الإسلام لم تُشرَع إلا لإسعاد البشريَّة؛ ليستشعروا أثناء تطبيقهم لها سرورَ أنفسهم وحُبُورها، ومُتْعَة حياتهم وهناءها، وأنَّ مَنْ أَعْرَض عن ذِكْر الرحمن؛ فالشيطانُ قرينُه.
قال تعالى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ*وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}
[الزخرف36-37]
,ومن خالف شِرعة الإسلام فسيكون في حياة صعبةٍ، ونفسيَّةٍ تعيسةٍ مُلازمة له.
فقد قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}.
[طه 124-126]
؛إذا عُلِم هذا، فالمؤمن لا يعيش في هذه الحياة إلا ببسمة الإيمان، وتذوقه لحلاوة عبادة الإحسان، وتزكية قلبه بمطالَعة القرآن، ومشاهدة بديع الأكوان، ويرى أنَّ قيامَه بهذه العبادة سبيل سعادته، وأنَّ إعراضَه عنها سبب ضلاله وشقائه، وأنَّ كلَّ خيْرٍ فيما شَرَعَهُ الله تعالى، وكل شر فيما حذَّر منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالمصلحة كل المصلحة للنفس البشرية كامِنَةٌ في شريعة الإسلام.
شريعة الإسلام يقوم أساسها على المصلحة:
إنَّ هذه الشريعة اعتَبَرَتِ المصلحة بجوهرها المقاصدي، ولم تُهمل مصالح العباد في الدارين، فليست المصلحة الحقيقيَّة للنفس البشرية خارجة عن مدارك المنظور الإسلامي، فلقد جاءت الشريعة بكُلِّ مصلحة لنا، وأبْعدَتْنا عن كلِّ مفسدة قد تضرنا، حتَّى لو كان في المفسدةِ جَلْب مصلحة؛ لأنَّ دَرْءَ المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح.
(أما المصلحة فهي عبارةٌ في الأصل عن جلْبِ منفعةٍ أو دفع مضرَّة؛ ولسنا نعني بها ذلك؛ فإنَّ جلب المنفعة أو دفع المضرة مقاصدُ الخَلْق؛ وصلاحُ الخَلْق في تحصيل مقاصدهم، لكنَّا نعني بالمصلحة: المحافظةَ على مقصود الشرع) .
ويقول شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة:
(والقولُ الجامع: أنَّ الشريعةَ لا تُهمل مصلحةً قط، بل اللهُ تعالى قد أكْمَل لنا الدِّينَ وأَتَمَّ النِّعْمَة) .
ويقول الإمامُ ابنُ القَيِّم:
(إنَّ الشريعةَ مبناها وأساسُها على الحِكَم ومصالِح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالِحُ كلُّها، وحكمةٌ كلها، فكلُّ مسألة خرجتْ عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضِدِّها، وعن المصلحةِ إلى المفْسَدَةِ، وعن الحِكْمة إلى العَبَث، فلَيْسَتْ من الشريعة، وإن أُدْخِلَتْ فيها بالتأويل) .
(المعلومُ من الشريعة أنَّهَا شُرِعَتْ لمصالح العباد ؛فالتكليفُ كلُّه، إمَّا لدَرْءِ مفْسدةٍ، وإما لجلْبِ مصلحة، أو لَهُما معًا) .
هذا نَزْرٌ يسير مِمَّا سطَّره عددٌ من مشاهير علماء الإسلام؛ كالغزالي، وابن تيميَّة، وابن القيم، والشاطبي، حيال هذه القضيَّة التي أوضحتْ كمال هذا الدين، وأنَّه دين أتى للبشرية بكُلِّ ما يسعدها من مصالحهم التي قد ارتضاها لهم اللهُ - تبارك وتعالى - فكلُّ ما جاء في شِرعته فهو خيْرٌ ومصلحة للعباد في الدارَيْن.
إذا عَلِمَ العبدُ أنَّ الشريعة لن تُقَدِّم له إلا كُلَّ نافع ومصلحة، ولن تُبعد عنه إلا كلَّ ضارٍّ له ومفسدة، وأنَّ لهذه الشريعةِ الإسلامية مقاصدَ ساميةً، وأسراراً بديعة فإنَّه سيُدرك عظمتَها وروعتها، لكن للخطر المنْهَجيَّ في طريقة التصوُّر والاستدلال ظَنَّ بعضُ الأشخاص أنَّ مصلحتَهم تكْمُن في اختياراتهم النفسيَّة ورغباتهم الشخصيَّة، ولرُبَّما رأى أحدهم الخير في ارتكاب ما يظنُّه مصلحةً؛ مسوغًا ذلك بأنَّه: قضيَّة خيريَّة، وضرورة شرعيَّة، لكنَّها في حقيقةِ أمْرِها لا تنْفَصِل عن أن تكونَ مفسدةً كبرى في حقه، ولربما يُخالف نصوص الشرع بحجَّة المصلحة؛ فيقع في المفسدة الكبرى، وهي: مُخالَفة شريعة رب العالمين، مع أنَّه سبحانه وتعالى يعلم سِرَّ المصلحة فهو القائل:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الملك14]
، ويقول عزَّ مِن قائل:
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}
[الأعراف54]
، وذلك لأنَّ
(المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالِقُها وواضعها، وليس للعبد بها علمٌ إلا مِن بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثرُ مِن الذي يبدو له؛ فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه مِن وجهٍ لا يُوَصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلاً لا آجلاً، أو يوصله إليها ناقصةً لا كاملة، أو يكون فيها مفسدةٌ تربو في الموازنة على المصلحة؛ فلا يقوم خَيْرُها بشرها)
؛ كما يقول الإمام الشاطبي.
نماذج من طرائق الناس في تديُّن المصلحة:
لن أجعل ما هو مكتوب في هذه الورقة مجرد خيال أسبح به في الفضاء، دونما نظر في الواقع المعيش، فإنَّ المُشكل حقًّا أنَّ كثيراً من الناس حينما يتعامَلون مع نُصوص الشريعة فإنَّهم يتعامَلون فيها بحسب أهوائِهم ومَصالِحهم الشخْصِيَّة، ولْنَضْرِب على ذلك أمثلة، فلعله يتضح المقال بذكرها:
هنالك مَن يتعامل مع قضية الميراث بمبدأ:
(حيثما كانت مصلحتي فثمَّ ديني)
، فتراه يَحْرِم بعض قريباته من الميراث؛ بحجَّة أنَّ المرأة هنالك مَن يعولها ويُنفق عليها، وأنها لا تعمل، وأنَّها أقل قدراً من الرجال إلى غير ذلك من الأقوال التي تُلقى على عواهنها.
قِبَالَة ذلك لو أنَّ زوجته حُرِمت الميراث أو أنَّ زوج ابنته مات، وحَرَمها أهلُه من الميراث لانْقَلَب الحال رأسًا على عقب، وبدأ يُنادي بتحكيم شريعة الإسلام، وهو نفسه قد حارب إعطاء المرأة ميراثها، ولم يُعطِ لأخواته حقهن من الميراث، مع أنَّه كان يُذكَّر بالآيات القرآنيَّة، ومع هذا يكون حاله كما قال تعالى:
{وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}
[لقمان7]
،ويتحجَّجُ بأنَّ عاداتهم وتقاليدهم ورسومهم وأعرافهم لا تُعطي المرأة ميراثها, وبهذا نستذكر قولَ الحق تبارك وتعالى:
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ*وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
.
[النور48-51]