أخرج ورقة وقلما من جيبه وقال لي.. لو سمحت أعد علي مرة أخري نص الحديث النبوي الذي ذكرته حالا.. قلت أن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: إن من الذنوب ذنوبا.. لاتكفرها صلاة ولازكاة ولا حج.. ولكن يكفرها السعي علي الرزق.. ابتسم الطيب صالح في وداعة وأثني علي مداخلتي مع أدونيس في مؤتمر تجديد الخطاب الديني الذي عقد برعاية المجلس الأعلي للثقافة.. كان أدونيس يري أن المسلمين لن يتقدموا بسبب تعاطيهم للمعتقدات الدينية التي تعرقل العلم والديمقراطية والعمل.. في حين كنت أري أن في الإسلام طاقة جبارة من الحث علي العمل, فالفاروق عمر يقول والله لو جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا نحن بغير أعمال يوم القيامة لكانوا أحق منا بمحمد صلي الله عليه وسلم.. والإسلام أيضا فيه طاقة للعلم فالإمام ابن تيمية كان شديد الحزن وهو يري تأخر العلم عند الأمة فيقول.. والله مادخلت قرية ولا محلة إلا ووجدت فيها أربعين فقيها.. وطبيبا واحدا.. ولما أسأل عن هذا الطبيب يقولون إنه من الفرنجة.. فضاعت دولة الإسلام.. أما مسألة الديمقراطية فمنذ اللحظة الأولي لرحيل النبي كانت هناك مناظرة رئاسية بين حزب المهاجرين بزعامة أبي بكر الصديق وحزب الأنصار بزعامة سعد بن عبادة,
وعرض كل منهما برنامجه الرئاسي واختار الناس أبا بكر في النهاية.. إذن الإسلام ضد الدولة الثيوقراطية بمعناها البطريركي وهو مع الشوري والديمقراطية.. كنت ألمح دائما في وجه الطيب صالح حالة من الرضا والطمأنينة والحماسة العقلانية لدينه وعروبته.. وأري فيه الشخصية المتصالحة مع نفسها والكاشفة لعيوب أمتها دون تعال ودون جلد للذات.. أيضا انفتاحه علي الآخر.. والدخول في حوارية جدلية بين الجنوب والشمال, وبين الشرق والغرب مثلما فعل قبله توفيق الحكيم في عصفور من الشرق ويحيي حقي في قنديل أم هاشم.. هل المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب مثلما يقول ابن خلدون.. هل المغلوب حاقد وحاسد للغالب ويريد الانتقام حتي لو كان في حجرات النوم, مثلما فعل مصطفي بطل رواية موسم الهجرة إلي الشمال.. الطيب صالح رحمه الله كان شيخ طريقة خاصة به في الوقوف علي نقطة ارتكاز لا شرقية ولا غربية ولكن إنسانية.. وكان بمنأي دائما عن شهوات الشهرة والمال والنفوذ, ومن أجل ذلك نجا من لعنة فوضي الحواس وهو عنوان رواية أحلام مستغانمي التي قالت فيها إن الحب هو الضمانة الوحيدة والحصانة الوحيدة التي تجعل الإنسان ينجو من شهوات نفسه ومن فوضي الحواس.. والطيب صالح حصن نِفَسٌ ه بالحب وبالمحبين
فعاش سلطانا لأنه كان بعيدا عن السلطان.. وقديما قالوا.. من لايعرف السلطان.. سلطان…