عندما خضت في نصوص هشام خاطر، لم أكن أتوقع أني سأخوض في مخاضة كبيرة واسعة الامتداد من مساحات الألم، فنصوص هشام وهي تحمل اسم شباطيات)، تعيدنا إلى جو شهر شباط بما يحمله من تخبط وعنفوان، ويذكرني بالمثل الشعبي الذي كان أجدادنا يقولونه أمام تقلب شهر شباط وعنفوانه: "شهر شباط ما عليه رباط"، فلم يكن لأحد أن يتوقع موعد الشمس من لحظات الغضب ولحظات الرياح والمطر، وهكذا كانت نصوص (شباطيات) تحمل في دواخلها وبين طياتها مجموعة من أشهر شباط وليس شهراً واحداً، تدفع قارئها لوضع العديد من التساؤلات، ولعل أهم سؤال هو: ماذا يريد فالذي يقول في نص "ابتسامة موجهة" عبارة: "باستطاعتي انتزاع قنبلة من بين الصخور، ولكنني أعجز عن انتزاع آلامي من رؤيتي لعاهة مستديمة"، يجعلنا نحن القراء نجهل "المعاني رغم تكرار الإشارة دائماً"، كما يقول عن نفسه في النص. فهشام يعتمد كثيراً في نصوصه على الرمزية، وأحياناً تكون الرمزية مغرقة في ثنايا النص ما لا يترك المجال للقارئ إلا أن يعود ويقرأ النص أكثر من مرة في محاولة لأن يصل للمعاني المختبئة خلف العبارات، فهو لا يكتب لمجرد الكتابة، وهو في الوقت نِفَسٌ ه لا يتحذلق بالكلمات، بمقدار ما رأيت أن هناك خلف هذه السطور روحاً يشوبها الألم، يشوبها الغضب، فهو "كمارد غاضب مدفوعاً بكل أسباب النقمة".
وفي نصه (بيلار) أشعر أنه نص منتزع من الواقع، أشعر أنه يروي حكاية حصلت، لكنه يصوغها بعد مضي وقت طويل كنـزف روح، ويتساءل: "كم من الموت كان سيحتاج حتى ليخرج بك من بين الركام؟"، وهنا نجد في السؤال فلسفة معينة حول الموت وحول الحياة، وفي نصوص أخرى نجد الكاتب يلجأ للغرائبية ورسم لوحات سريالية كما في قصة (طبع مكتسب) حيث يقول: "كانت وجوه لنا نراها للوهلة الأولى"، وهو يبدأ القصة بقوله: "هذا ما تبقى من وجهي على حائط المدرسة القديم"، فهو من خلال فكرة غرائبية إلى حد الإدهاش يعري الوجوه في المجتمع كونها ليست أكثر من أقنعة مزيفة، وهو يلجا للأسلوب نِفَسٌ ه وإن كان بشكل أقل حدة في قصة (صوباشي عريس)، بينما تزداد حدية الغرائبية والرمزية في قصته (عادة قديمة) حتى تصل إلى درجة الإغراق بالرمز، والتي يصرخ في نهايتها: "أنا ما زلت هنا.."، ما يعطي النص طابع الشعور بالبحث عن الذات في ظل فكرة غريبة صاغها النص، بينما في نصه (عملية مضاعفة) نراه يمازج بين أفكار مرتبطة بالجوع "الجوع حين ينال من حواسنا يجعل للعظام الجافة نكهتها"، فيأتي النص كأنه على شكل حلم ونهاية القصة هي الواقع.
إن أساليب الكاتب في مجموعته متنوعة على الرغم من الرابط الذي يربطها معاً، فنحن نجد أنِفَسٌ نا في عالم مختلف بأجواء كل قصة أو نص، رغم الخيوط السرية التي تربطه بالنصوص الأخر، ونجد ذلك بوضوح في نصه (مداهمة أمنية)، من حيث العنوان ومن حيث الأسلوب، ونجد ذلك بشكل مختلف قليلاً في نصه (نحو المدافن)، وفي نصوص أخرى نجد أن الغرائبية تسود في النص، ولكن النص لا يخلو من هدف وفكرة، إضافة إلى الأسلوب الشيق الذي يشد القارئ إلى الغوص في لب النص لفهمه، أو وضعه جانباً إن لم تسعفه أفكاره بأن يتقمص روح هشام ويحلق بالنص.
إن التجوال في نصوص هشام خاطر يتطلب من القارئ التركيز في ثنايا النصوص وطياتها، فالكاتب امتلك أسلوباً مختلفاً في السرد والقص والتعبير، وكانت النصوص تحمل في طياتها الكثير من أفكار تحتاج التركيز معها للوصول لأهدافها، فأنا وفي قراءتي لها كنت أضطر أن أعيد قراءة النص كاملاً أحياناً، وفقرات منه أحياناً أخرى، من أجل استنباط الفكرة والمغزى بالنص المنفرد؛ وفي المجموعة المتكاملة، فهو يحمل فكرة بأسلوبه منذ النص الأول حتى الأخير، فهي نصوص مازجت بين البوح الروحي والقصة القصيرة، فكانت تمتلك أسلوباً له تأثير على النِفَسٌ ، فمثل هذه النصوص لم تكتب بقرار الكتابة، بمقدار ما كانت نزفاً روحياً يكاد يصل إلى درجة الهذيان.
هشام، هذا الشاب، يعيدني مرة أخرى إلى السؤال الذي طرحته في البداية: ماذا يريد الكاتب؟ لأجد نِفَسٌ ي وبعد كل رحلة التجوال لا أستطيع أن أضع إجابة محددة، فهذا الشاب الذي ما زال في بداية الثلاثينيات من العمر، عاشق الموسيقى والشعر والأدب، وما زال يعيش في صومعة الوحدة بدون زواج، وربما لرفضه كل أشكال القيود، على الرغم من معاناته من الاحتلال للجولان الذي ولد فيه وتفتحت عيناه على احتلال ظالم وغاشم، لعل هشام من خلال نصوصه يبدي احتجاجه على قدر ارتبط بشهر شباط، وزمن عاشه ارتبط بوجود احتلال، فيشهر قلمه ولسانه في وجه كل القواعد المألوفة، ليخط فضاء هشام الذي حلق وحلقنا به.