هذا كتاب ممتع الي أقصي غايات الامتاع, فيه ألوان من الُفَائدَة لاتكاد تحصي, فيه العبرة وفيه الموعظة وفيه أسوة للشباب وفيه المتعة التي تجدها في كتاب عرف صاحبه كيف يكتبه.
هذه هي السطور الأولي التي دبجها طه حسين في تقديمه للسيرة التي كتبها رائد طب النساء والولادة الدكتور نجيب محفوظ(1882 ـ1972) والتي أعيد نشرها هذه الأيام في عنوان( حياة طبيب) عن سلسلة( ذاكرة الكتابة) التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. ولعلنا نذكر أنه هو الطبيب الذي كان عاون كاتبنا الراحل نجيب محفوظ علي الخروج الي الدنيا بعدما تعذرت ولادته, هكذا سمي الكاتب تيمنا باسم النطاسي الشهير.
وأنا أريد أن أتوقف معك هنا عند هذه الصفحات التي سجل فيها حكاية الكفاح الذي قاده ضد وباء الكوليرا, كذلك الكفاح المعاكس الذي قاده الأهالي دفاعا عن هذا الوباء, وهو الأمر الذي لن نجد له نظيرا الا في تلك المقاومة المجيدة التي قادها الأهالي دفاعا عن الدجاج, أخوتنا في المسكن والمأكل, سواء كانت حاملة للانفلونزا أو غير حاملة لها, والوسائل المدهشة التي ابتكروها معرضين أنِفَسٌ هم للاصابة بالمرض الذي أودي بحياة الكثيرين منهم.
والذي حدث انه في مستهل صيف1902 كانت الكوليرا قد تفشت بين الحجاج في مكة فقضت علي الآلاف وبينهم كثير من المصريين, فلما عاد الحجاج كان بينهم عمدة قرية صغيرة اسمها(موشا) علي مقربة من أسيوط يسكنها حوالي أربعة آلاف من الأهالي وتقوم علي مرتفع, أثناء الفيضان تمتليء الحياض من حولها وتصبح مثل جزيرة معزولة. وكان هذا العمدة قد جلب معه عشر صفائح من ماء زمزم بعدما كان لحقها ميكروب الكوليرا, ولما وصل العمدة الي البلدة وزع الماء علي الأهالي والأحبة فصبوه في آبارهم للتبرك,
وماهي الا ساعات الا وراحت تحصدهم حصدا, في ذلك الوقت كان يندر أن تجد طبيبا مصريا متخصصا في مكافحة الأوبئة, وكان الدكتور نجيب محفوظ وصل متطوعا الي القرية التي كانت محاصرة, في نِفَسٌ الوقت الذي كان المجلس العسكري منعقدا لمحاكمة جندي مهد لأحد الأهلين أن يخرج من البلدة نظير بيضة مشوية أخذها كرشوة, وقد حكم علي هذا الجندي بضربه أربعين جلدة وحبسه ستة أشهر,
وقد توجه نجيب محفوظ الي هناك وقت صلاة الجمعة والناس محتشدون, ووقف علي عتبة الجامع وأفهمهم بأن الكوليرا التي أودت بحياة كثير من أعزائهم يرجع سببها الي أن بعض الآبار تلوثت, فاذا وصلت هذه المياه الي الأمعاء كان منها القيء والاسهال الذي يقضي علي المصاب في أيام معدودات, وقد طهرت الحكومة مااستطاعت من الآبار, وهناك بقية أخفاها الأهلون خوفا من التلف وهذا وهم, وسنبحث عما تبقي منها لتطهيرها حتي ينقشع الوباء باذن الله.
فماذا فعل الناس بعد هذه الخطبة العصماء؟ لقد تفننوا في اخفاء آبارهم الملوثة, وهو يخبرنا كيف أن الأهالي كانو يخفونها بأن يضعوا عليها ألواحا قديمة من الخشب,وكانوا يفرشون فوق الألواح حصيرا باليا, ثم يغطون الحصير بالتراب, وأنه لم يكن يصل الي اكتشافها الا بأن يقرع أرض المنزل بنبوت نائب العمدة الذي كان يرافقه, فاذا كان صدي القرع أصم علم بأن ليس هناك بئر, وان كان الصدي رنانا يأمر بنبش الأرض, وبهذه الطريقة اكتشف من الآبار المخبوءة والمصابة بالوباء حوالي خمسين بئر وهو قام, رغما عن الأهالي بتطهيرها واحدة تلو الأخري.