أيام دراستي الإبتدائية استغرقني على الدوام مدفن مهجور مكتوب عليه أنه لأمير الصعيد شيخ العرب همام بن يوسف.
تساءلت دوما عن هذا الأمير الشيخ الذي لا يعرف أهل بلدتي من أين جاء ومن دفنه عندهم وكيف كان أميرا للصعيد. مضت السنوات الطوال منذ تلك الأيام وأنا لا أعلم شيئا عنه لكنني لم افقد اهتمامي به يوما ما.
كاتب شاب فتش في دفتر أحوال المصريين في الماضي ليكشف لنا سيرة هذا الأمير الصعيدي الهواري الثرية المليئة بالعبر والدروس، ومخرج شاب اختارها دون غيرها ليقدمها لنا مسلسلا في رمضان عن تاريخ نجهله رغم وجوده في تاريخ الجبرتي وكتاب الحملة الفرنسية وكتابات الطهطاوي.
الأروع من المؤلف واسمه عبدالرحيم كمال كما يظهر في تتر المسلسل الذي تقدمه قناة الحياة المصرية حصريا، الفنان يحيي الفخراني الذي تلبسته شخصية شيخ العرب همام فأداها بإبهار كعهدنا به دائما في أدواره الجادة.
ولولا الحشوة النسائية وباروكة صابرين التي أفتى لها البعض بأنها تقوم مقام الحجاب، لخرج مسلسل شيخ العرب همام نقيا مستوفيا شروط الدراما الممتازة غير الخليعة التي تقدم تاريخيا حقيقيا يمكنه أن يفيد الأجيال، لأن التاريخ الناطق الدرامي يلتصق بالأذهان ويمكنه أن يطور واقعنا عن طريقة قراءة الماضي واستلهامه فيما يستجد من حياتنا وقرارتنا التي نتخذها.
خرجت تجريدة محمد علي بك الكبير من المحروسة أو القاهرة لتقبض على الشيخ همام بن يوسف في معقله بمدينة فرشوط بقنا، أيام دولة المماليك، لأنه أسس إمارة عادلة تمنح الناس حقوقهم، وتحكم بينهم بالعدل، وجعل أمرهم شورى، ولم يفرق في عدله بين مسلم ومسيحي، فأحبه الجميع وخدم في ديوانه المسيحيون لأنهم كانوا حينها أهل قلم وقانون، وكان رئيس ديوانه مسيحيا لا يتردد في فصل ابن اخيه لأنه وجده غير أهل للمكانة التي منحها لهم ذلك الحاكم العادل تحت راية الإسلام وشريعته.
لا أجد ثمة فارقا في التاريخ بين تجريدة محمد علي بك الكبير والحملة الأمريكية على أفغانستان ومطاردتها للملا محمد عمر. أوجه شبه كثيرة بين الملا عمر وبين شيخ العرب همام بن يوسف. كل منهما صاحب كلمة لا يخيفها السيف، إذا قال نفذ وإذا لجأ إليه من يرجو حمايته كفله بالحماية حتى لو كان الثمن ملكه وحياته.
هكذا فعل الملا عمر مع العرب الذين لجئوا إليه.. وبالمثل كان شيخ العرب الهواري همام بن يوسف قد فعلها مع المماليك المطاردين من رأس دولة المماليك في القاهرة.
التجريدة المملوكية تحتل عاصمة ملكه فرشوط فيخرج هاربا في قرى الصعيد بحاشيته وبعض جنوده ولا يتخلى عن المقاومة من أجل دولة العدل. والملا عمر بعد سقوط قندهار يخرج هاربا في جبال أفغانستان غير متخل عن مقاومة الاحتلال الأمريكي وعن حلمه بإعادة الحكم الطالباني لأفغانستان.
غابت شمس الدولة المملوكية دون أن تصل إلى مكان أمير الصعيد، فقد نزل قرية قامولا غربي النيل القريبة من القرنة، وظل فيها يجمع الناس وينشر بينهم العدل حتى مات ودفن غريبا، فالمسافة بينها وبين فرشوط بعيدة جدا في ذلك الزمان، بمسافة ليال الخارج في سفر فيها مفقود.
هذه القصة التي أتابعها باهتمام كبير وحفزتني إلى البحث عنها في كتب المؤرخين القدامي والمحدثين ومنهم الدكتور لويس عوض، جعلتني استغرب احجام التلفزيون المصري عن بثها رغم أنها الأعلى مشاهدة وإعلانات حتى الآن.
ومن أغرب ما سمعته أن أسامة الشيخ خشي غضب لجنة السياسات فسأل وزيره أنس الفقي، فسأل الثاني آخرين فتطوع من أخبره بأنها تفتح عيون الناس على نموذج من الحكام يجعل العدل واعطاء الحقوق فوق كل شئ، وأنها ربما تثير غضب أمريكا بسبب أوجه الشبه بين إمارة الشيخ همام وإمارة الملا محمد عمر!
الحاكم القوي لا يتردد في اعلاء العدل والشورى فأنهما أساس الملك. ولو قدر يوما لمؤرخ محايد موضوعي أن يكتب قصة الملا عمر لخرج لنا بهذا النموذج من الحكام الذين ظلمهم التاريخ لأن آلة الإعلام المعادية كانت أقوى في تشويههم.
همام بن يوسف لم يتخذ قرارا منفردا من بنات أفكاره ولم يسأل أهل بيته وأسرته في شئون الحكم، بل كان يستدعي رؤوس قبائل الهوارة والصعيد ويستشيرهم ويأخذ بما ينتهون إليه.
والملا محمد عمر كان يفعل ذلك. تحالفاته مع القبائل الأفغانية واستشارته لهم ومشورتهم له هو أساس ملكه.