بعد سنوات طويلة على رحيل الكاتب الكبير مصطفى شردي رئيس تحرير "الوفد" في عصرها الذهبي عندما كانت لها شنة رنة، استعيد عنوانا ما يزال ملتصقا بذاكرتي مع تعديل بسيط يتناسب مع إتهام قسم شرطة سيدي جابر بالأسكندرية بتعذيب الشاب خالد محمد سعيد حتى الموت، ثم الادعاء بأنه مات متأثرا بابتلاع لفافة مخدرات سدت قصبته الهوائية!
في ذلك الزمن كتب الشجاع شردي مقالا موجها إلى وزير الداخلية أيامها الرجل القوي زكي بدر وكان عنوانه "اسمع يا بدر واشهدي يا مصر".. وما زلت اتذكر حينما كنت مدعواً لحفل الافطار الرمضاني الذي أقامته وزارة الأوقاف وحضره كبار رجال الدولة وشيخ الأزهر والبابا شنودة، كيف كان شردي يجلس شامخا قويا لا يهاب شيئا، وكيف كان زكي بدر يختلس النظرات إليه بين الحين والآخر متهيبا رغم ما يحيطه من بريق القوة والسيادة!
لا أزعم شجاعة مصطفى شردي ولا أملك قلمه الذهبي الذي كانت حروفه تنطلق كالرصاص في سبيل الحرية والعدالة ورفع الظلم، لكني أحاول هنا أن أقول لهذا الجهاز المكلف بحماية أمن الناس وبث الطأنينة فيهم على نفوسهم وأولادهم وأموالهم وحقوقهم، أن العالم كله أصبح قرية صغيرة، وحادث تعذيب لمواطن في مصر سيثير الدنيا وسيغضب الولايات المتحدة الأمريكية لأنها ستتهم أمام مواطنيها دافعي الضرائب بأنها تقدم إعانة من أموالهم لدولة لا تحترم حقوق الإنسان.
لقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مساء الاثنين بيانا قالت فيه إنها "قلقة حيال وفاة شاب يعتقد أن الشرطة المصرية ضربته حتى الموت، وأجرت إتصالا فى هذا الصدد بالحكومة المصرية".
وحسب وكالة فرانس برس قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فيليب كراولى إن واشنطن راضية عن إعلان إجراء تحقيق فى الأمر، وتنتظر من السلطات المصرية أن "تحاسب كل من هو مسئول".
ربما يظن المسئولون في قسم سيدي جابر بالأسكندرية أن شقيقي الشاب اللذين يحملان الجنسية الأمريكية ويقيمان في الولايات المتحدة، وكان أحدهما في مصر عندما قتل "خالد" وراء غضب واشنطن الذي أثارته على أعلى مستوى سياسي، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعرفوها ويعرفها وزيرهم السيد حبيب العادلي أن كرباجا صغيرا يعبط به مواطن في أقصى مكان ناء من مصر سيسمع صوته العالم كله بسبب الثورة الكبرى في الاتصالات والُمًعًلُومًاتُ التي توفرها الشبكات الإجتماعية مثل فيس بوك وتويتر.
لم تستطع إيران أن تحجب مظاهرات الثورة الخضراء رغم اغلاقها لمكاتب القنوات الفضائية الخبرية، ورقابتها الشديدة على الانترنت وأجهزة الجوال، لكن كل شئ كان يسافر في اللحظة والتو بواسطة تويتر.
ويبدو أن دراسات كلية الشرطة والدورات الشرطية لم تخبر منسوبيها بالتكنولوجيا المتقدمة حتى تشعرهم بأن كل ممارساتهم تحت الرقابة وأن القانون الدولي والرأي العام العالمي لا يرحم مخطئا متجاوزا.
أتمنى أن يكون ذلك قد وصل الآن لوقف أي نوع من الفبركة في هذه القضية التي شغلت وزارة الخارجية الأمريكية، ليس خوفا منها ولكن احتراما لكيان الإنسان المصري وكرامته، خصوصا أن والدة الشاب خالد تكلمت لتنفي كل فبركة نسبتها الأجهزة المسئولة إليها.
وأنقل هنا ما قالته السيدة ليلى مرزوق المنكوبة بقتل ابنها الشاب صاحب المدونة التي لا يقترب فيها من السياسة ويقتصر محتواها على تكنولوجيا الكمبيوتر والانترنت والمواقع الالكترونية.
تقول: شهود العيان أبلغوني أن مخبري الشرطة سحلوا خالد وضربوه بقسوة وكسروا أسنانه، قبل أن يأخذوا جثته إلى سيارة الشرطة ويضعوا مخدرا في فمه.
سيارة الإسعاف التي استدعاها ضابط قسم شرطة سيدي جابر لحمل الجثة رفضت في البداية عندما تيقن الطبيب من وفاة خالد، إلا أنهم هددوا السائق وأجبروه على حمله.
ثم أجبرت الشرطة الموظف المختص على كتابة تقرير يؤكد فيه أن خالد كان حيا. غسلوا الجثة من الدم ووضعوها في كمية كبيرة من الثلج، حيث ظهرت آثار تكسير الأسنان والجمجمة وتشوهات بالوجه وتسلخ باليدين والقدمين نتيجة السحل.
قسم شرطة سيدي جابر طلب من شهود العيان عدم الإدلاء بشهادتهم في ما حدث وإلا فإنهم سيتعرضون لنِفَسٌ مصيره.
السيدة ليلى مرزوق كانت قد قدمت بلاغا على الهواء للنائب العام عبر برنامج تليفزيوني للتحقيق في قضية ابنها، وأكدت أن ما يتم الترويج له على لسان عناصر الشرطة بأنه مدمن مخدرات غير صحيح بالمرة، فقد مثار تقدير واحترام كل من يعرفه.
ما يلفت نظري هنا أن نص تقرير الطبيب الشرعي يختلف عما تم الترويج له رسميا وفي صحف الحكومة، فقد تحدث عن وجود كسر في الفك ونزول في عظام الوجه "تحطيم للجمجمة" إضافة إلي رضوض وكدمات في الوجه وإصابات متعددة فيه وفي بعض أجزاء الجسم الأخرى، إضافة إلي سقوط الأسنان نتيجة لتلقي ضربات شديدة ولم يحدد التقرير نوع الأداة، إضافة إلي تأكيده على أن الإصابات بالجثة هي إصابات حيوية، أي حدثت قبل الوفاة وليس بعدها.
ويثبت التقرير وقوع عملية تعذيب شديدة، دون أن يذكر الأدوات، وأن الإصابات في الجثة ليست نتيجة التشريح كما قالت النيابة ووزارة الداخلية.
وقد حدث تطور كبير خلال الساعات الماضية إذ قرر النائب العام المستشار عبد المجيد محمود استخراج الجثة، وندب لجنة ثلاثية من مصلحة الطب الشرعي بالقاهرة برئاسة كبير الأطباء الشرعيين لإعادة تشريحها لبيان سبب الوفاة والإصابات الموجودة بالجثة وسببها وتاريخ وكيفية حدوثها والأداة المستخدمة.
حسن مصباح (62 سنة)، صاحب مقهى الانترنت الذي تم فيه القبض على خالد سعيد تحدث هو أيضا وقال إن خالد لم يكن يعرف من قيده من الخلف، حيث فوجئ أثناء دخوله من باب السايبر بشخصين يدخلان وراءه وقام أحدهما بشل حركته عن طريق تقييد يديه خلف ظهره، بينما انهال عليه الآخر بالضرب دون أن ينطقا بكلمة واحدة أو يقولا له من هما ولماذا يفعلان معه ذلك.
"المخبران السريان أمسكا بخالد وأخذا يضربانه بشكل هستيري وكأنه انتقام منه لوجود ثأر قديم بينهما وبينه، فقاومهما لأنه لم يعلم من هما، كما أنهما ضرباه بشكل جنوني، فحتى لو علم من هما فمن الطبيعي أن يقاومهما، خاصة أنه استسلم لهما بمجرد تقييده وحاول أن يعلم من فعل ذلك بهدوء، حتى بدأ الآخر في ضربه فبدأ خالد في المقاومة".
"أخذ المجني عليه يسأل عدة مرات وهو يصرخ "من أنتم ولماذا تفعلون بى هذا، وعندما حاول أن يدير وجهه للخلف قاما بضرب وجهه في رخامة على باب السايبر مما تسبب في كسر أسنانه وفكه، وبدأت الدماء تنزف منه بشدة وهو يحاول الخلاص بأي طريقة".
وأكد مصباح "أنه هو نِفَسٌ ه لم يكن يعلم أن هذين الشخصين من الشرطة، واعتقد أن هناك مشكلة بينهما وبين المجني عليه، فطلب منهما الانصراف به بعيدا عن مكان عمله حتى لا يزعجوا الزبائن، فأخذاه وذهبا به إلى وسط الشارع أمام محل حلاقة وأكملا ضربه، ولما وجدا الناس بدأت تلتف حولهما أخذاه إلى مدخل عقار مجاور وبعدها فرا مسرعين، فإذا بطبيب من سكان العقار أثناء دخوله اكتشف أن خالد ملقى على الأرض ولما كشف عليه وجد نبضه متوقفا واكتشف وفاته".
"بعد ذلك جاءت سيارة شرطة وبها المخبران ومعهما ضابط وأخذوا جثة المجني عليه وبعد 7 دقائق عادوا وألقوا بها في الشارع وطلبوا سيارة الإسعاف لتنقل الجثة".
وكشف صاحب السايبر "أن صديق المجني عليه الذي قال بيان الداخلية إنه نفى تعذيب المخبرين لخالد لم ير شيئا لأنه كان جالسا داخل السايبر، ولم يسعف الوقت خالد للحديث معه حيث أمسك به المخبران قبل أن يدخل إلى صديقه في السايبر، وعندما أخذاه إلى الخارج لم يتحرك صديق خالد من مكانه ولم ير شيئا".
وتساءل مصباح" لا أعلم لماذا أكد صديق المجني عليه في تحقيقات النيابة أن المخبرين لم يعذبا خالد ولم يضرباه".
وفي بيان عاجل قدمه النائب حمدي حسن لرئيس الحكومة ووزير الداخلية قال إن ذلك هو الحادث الثالث لنِفَسٌ الضابط الذي سبق وارتكب من قبل جريمتي تعذيب وأفلت من العقاب.
وطالب نواب في الإخوان والمستقلين بإقالة اللواء حبيب العدلي وزير الداخلية بسبب جرائم التعذيب داخل أقسام الشرطة وجريمة تعذيب خالد حتى الموت.
أعود إلى العنوان فأتمنى من كل قلبي أن يستمع البعض في جهاز الشرطة لهذه النصيحة ويراجعوا أنِفَسٌ هم جيدا، فيدركوا أنه لا يمكن الكذب على الرأي العام في هذا العالم المفتوح والشفاف.