بدأت
سورة البقرة حديثها عن صفات المؤمنين، وذكرت من صفاتهم أنهم يؤمنون
بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون في وجوه الخير مما رزقهم الله؛ ثم أتبعت
ذلك بالحديث عن الكافرين، وبينت أن إنذارهم وعدم إنذارهم غير مجد معهم؛ ثم
انتقلت السورة للإخبار عن المنافقين وصفاتهم. وقد استغرق الحديث عن
المؤمنين والكافرين بضع آيات؛ بينما أفاضت السورة في الحديث عن المنافقين،
وأخبرت أن من صفاتهم إظهار الإيمان قولاً، وإضمار الكفر حقيقة .
وبعد
أن ذكر سبحانه بعض صفات المنافقين، أراد أن يمثل لحالهم وواقعهم بمثل،
يبين حقيقة موقفهم، ويكشف عن طبيعة أمرهم، فضرب لذلك مثلاً محسوسًا
ومشاهدًا؛ ليكون أقرب إلى الأذهان، وأصدق في التعبير عن المراد، فقال
تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } (البقرة:17) .
فقد
مثَّل سبحانه بهذه الآية حال المنافقين، بحال شخص أشعل نارًا في مكان شديد
الظلمة، فلما أنارت ما حوله، وأخذ يستضيء بها ويستدفئ، إذا بتلك النار
تنطفئ فجأة، وتخمد، وإذا بالمكان يتحول إلى ظلام دامس، لا يستطيع معه الشخص
حراكًا، مع ما ينتابه من خوف وهلع .
وهذا هو حال المنافقين،
الذين استبدلوا الضلالة بالهدى، واختاروا طريق الغي بديلاً عن طريق الرشاد،
وصاروا بعد البصيرة إلى العمى؛ فقد كانوا في ظلمة الشرك والكفر، فأسلموا
فأنار الله لهم الطريق، وعرفوا الحلال من الحرام، والخير من الشر،
واستضاؤوا بكلمة الإسلام، وأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ولكنهم
استبدلوا الكفر بالإيمان، واختاروا النفاق بعد الإسلام، فذهب الله بنورهم،
وطبع على قلوبهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، لا يعرفون إلى الحق طريقًا،
ولا يهتدون إلى الهدى سبيلاً، فهم { صم } عن سماع الهدى، و{ بكم } لا يتجرؤون على النطق بكلمة الحق، و{ عمي } عن الانتفاع بنور الهداية والإيمان، { فهم لا يرجعون } أي: لا يعودون إلى الهدى، بعد أن استبدلوا الكفر بالإيمان، ورضوا بحالة النفاق بديلاً عن الإسلام .
واستعمال لفظ ( النور ) في قوله سبحانه: { ذهب الله بنورهم } دون لفظ ( الضوء ) ودون لفظ ( النار )، كناية عن الإسلام؛ واستعمال لفظ { ظلمات }، كناية عن الكفر والضلال .
وفي
الإتيان بلفظ { ظلمات } بصيغة الجمع، دون لفظ المفرد، إشارة إلى أحوال
المنافقين، وأنهم ليسوا على حالة واحدة؛ فهم يعيشون بين حالة الكفر، وحالة
الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق،
فهي كما قال تعالى: { ظلمات بعضها فوق بعض } (النور:40) .
وإذا
كان هذا المثل القرآني يبين حال المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه
وسلم، بعد أن هاجر إلى المدينة، وشرع في بناء دولة الإسلام، والدعوة إلى
الله، حيث بدأ المنافقون يحاربون الإسلام في الخفاء، ويتسترون بإظهار كلمة
الإيمان؛ فإنه في الوقت نفسه ينطبق على الدور الذي يقوم به المنافقون على
المستويات كافة في عالم اليوم، لإيذاء الإسلام وأهله، وما يحدثونه من قلق
واضطراب داخل صفوف المؤمنين، حتى أن مجريات ذلك لم تعد تخفى على أحد، بعد
أن انكشفت الأوراق، واتضحت النوايا، وأصبحت الحاجة ملحة لفضح ألاعيبهم،
ووقف خططهم، ومواجهة مؤامراتهم