سنة
النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هي العمل به ، والتخلق بأخلاقه ،
والتأدب بآدابه ، ودعوة الناس إليه ، كما وصفته عائشة رضي الله عنها بقولها
: ( إِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ الْقُرْآنَ ) رواه مسلم (746).
وهكذا يجب أن يكون هدي المسلم
مع القرآن الكريم ، السعي الدائم في العمل به والاهتداء بهداه ، فهو نور
من الله مبين ، من تمسك به نجا، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم .
وأما
هديه صلى الله عليه وسلم في تلاوة القرآن : فقد شرحه العلامة ابن قيم
الجوزية رحمه الله في كتابه العظيم " زاد المعاد "، جمع فيه الأحاديث
الواردة في الموضوع ، واختصرها في جمل وعبارات من عنده توضح المقصود ، وهي
كلها أحاديث صحيحة يمكن الرجوع إلى الكتاب نفسه محققا للتأكد منها ، ونحن
ننقل كلامه هنا اكتفاء به ، خشية الإطالة على السائل والقارئ .
يقول العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله :
"
فصل : في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن ، واستماعه ، وخشوعه ،
وبكائه عند قراءته واستماعه ، وتحسين صوته به ، وتوابع ذلك .
كان
له صلى الله عليه وسلم حِزب يقرؤه ولا يُخِلُّ به ، وكانت قراءتُه ترتيلاً
لا هذَّا ولا عجلة ، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً ، وكان يُقَطِّع
قراءته آية آية ، وكان يمدُّ عند حروف المد ، فيمد ( الرحمن ) ، ويمد (
الرحيم ) ، وكان يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم في أول قراءته ، فيقول : (
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَجِيم ) ، ورُبَّما كان يقول : (
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ
ونَفْخِهِ، ونَفثِهِ ) وكان تعوّذُه قبلَ القراءة ، وكان يُحبُّ أن يسمع
القراَنَ مِن غيره ، وأمر عبد اللّه بن مسعود ، فقرأ عليه وهو يسمع ،
وخَشَع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن مِنه حتى ذرفت عيناه .
وكان يقرأ القراَن قائماً ، وقاعداً ، ومضطجعاً ، ومتوضئاً ، ومُحْدِثاً ، ولم يكن يمنعه من قِراءته إلا الجنابة .
وكان
صلى الله عليه وسلم يتغنَّى به ، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً كما رجَّع يوم
الفتح في قراءته : ( إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً ) الفتح/1 .
وحكى
عبد الله بن مغفَّل ترجِيعَه ، آ ا آ ثلاث مرات ، ذكره البخاري ، وإذا
جمعت هذه الأحاديثَ إلى قوله : ( زَيِّنُوا القُرآن بأصْواتِكُم )، وقوله :
( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن ) ، وقوله : ( ما أَذِنَ
اللهُ لِشَيء، كأَذَنِهِ لِنَبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْان
) ، علمت أن هذا الترجيعَ منه صلى الله عليه وسلم كان اختياراً لا
اضطراراً لهزِّ الناقة له ، فإن هذا لو كان لأجل هزِّ الناقة لما كان
داخلاً تحت الاختيار ، فلم يكن عبدُ الله بن مغفَّل يحكيه ويفعلُه اختياراً
لِيُؤتسى به ، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوتُه ثم يقول : ( كان
يُرجِّعُ في قراءته ) فنسب التَّرجيع إلى فعله . ولو كان مِن هزِّ الراحلة،
لم يكن منه فعل يسمى ترجيعاً " انتهى.
" زاد المعاد " (1/482-484) .
وقد ذكر الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله ، في كتابه
النافع "أخلاق حملة القرآن" ، بابا في ( أدب القراء عند تلاوتهم القرآن مما
لا ينبغي لهم جهله ) ، لخص فيه جملة من آداب قارئ القرآن ، من أدب السنة ،
وهدي السلف ، فقال رحمه الله :
" وأحب لمن أراد قراءة القرآن ، من
ليل أو نهار أن يتطهر ، وأن يستاك ، وذلك تعظيم للقرآن ؛ لأنه يتلو كلام
الرب عز وجل ؛ وذلك أن الملائكة تدنو منه عند تلاوته للقرآن ، ويدنو منه
الملك ، فإن كان متسوكا وضع فاه على فيه ، فكلما قرأ آية أخذها الملك بفيه ،
وإن لم يكن تسوك تباعد منه ؛ فلا ينبغي لكم يا أهل القرآن أن تباعدوا منكم
الملك ، استعملوا الأدب ، فما منكم من أحد إلا وهو يكره إذا لم يتسوك أن
يجالس إخوانه .
وأحب أن يكثر القراءة في المصحف لفضل من قرأ في
المصحف ، ولا ينبغي له أن يحمل المصحف إلا وهو طاهر ، فإن أحب أن يقرأ في
المصحف على غير طهارة فلا بأس ، ولكن لا يمسه ، ولكن يصفح المصحف بشيء ،
ولا يمسه إلا طاهرا .
وينبغي للقارئ إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح
أمسك عن القراءة ، حتى تنقضي الريح ، ثم إن أحب أن يتوضأ ثم يقرأ طاهرا فهو
أفضل ، وإن قرأ غير طاهر فلا بأس منه .
وإذا تثاءب وهو يقرأ ، أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب ...
وأحب
للقارئ أن يأخذ نفسه بسجود القرآن كلما مر بسجدة سجد فيها ، وفي القرآن
خمس عشرة سجدة ، وقد قيل : أربع عشرة ، وقد قيل : إحدى عشرة سجدة ، والذي
أختار له أن يسجد كلما مرت به سجدة ؛ فإنه يرضي ربه عز وجل ويغيظ عدوه
الشيطان . روي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قرأ
ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله أمر ابن آدم
بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار » [ رواه مسلم في
صحيحه (81) ] ...
وأحب لمن كان جالسا يقرأ أن يستقبل بوجهه القبلة ، إذا أمكن ...
وأحب لمن تلا القرآن أن يقرأه بحزن ، ويبكي إن قدر ، فإن لم يقدر تباكى .
وأحب
له أن يتفكر في تلاوته ، ويتدبر ما يتلوه ، ويستعمل غض الطرف عما يلهي
القلوب ، ولو ترك كل شيء حتى ينقضي درسه كان أحب إلي ؛ ليحضر فهمه ، فلا
يشتغل بغير كلام مولاه .
وأحب إذا درس فمرت به آية رحمة سأل مولاه
الكريم ، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله عز وجل من النار ، وإذا مر
بآية تنزيه لله عز وجل عما قال أهل الكذب سبح الله وعظمه . وإذا كان يقرأ
فأدركه النعاس ، فحكمه أن يقطع القرآن حتى يرقد ، حتى يقرأه وهو يعقل ما
يتلو .. "
وذكر رحمه الله طرفا من الآثار التي تشهد لما ذكره ، ثم قال في آخر الفصل :
" جميع ما ذكرته ينبغي لأهل القرآن أن يتأدبوا به ولا يغفلوا عنه ، فإذا انصرفوا عن تلاوة القرآن : اعتبروا نفوسهم بالمحاسبة لها :
فإن
تبينوا منها قبول ما ندبهم إليه مولاهم الكريم ،مما هو واجب عليهم من أداء
فرائضه ، واجتناب محارمه : حمدوه في ذلك ، وشكروا الله على ما وفقهم له .
وإن
علموا أن النفوس معرضة عما ندبهم إليه مولاهم الكريم ، قليلة الاكتراث به ،
استغفروا الله من تقصيرهم ، وسألوه النُّقلة من هذه الحال التي لا تحسن
بأهل القرآن ، ولا يرضاها لهم مولاهم ، إلى حال يرضاها ، فإنه لا يقطع من
لجأ إليه .
ومن كانت هذه حاله وجد منفعة تلاوة القرآن في جميع أموره