أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي ) .
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله عز وجل : ( المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ) .
معاني المفردات
بجلالي : بعظمتي وطاعتي لا لأجل الدنيا .
يغبطهم : الغبطة تمني مثل نعمة الغير دون تمني زوالها عنه .
فضل الحب في الله
الحب
في الله رابطة من أعظم الروابط ، وآصرة من آكد الأواصر ، جعلها سبحانه
أوثق عرى الإسلام والإيمان ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله ، والحب في الله والبغض في الله عز وجل ) رواه الطبراني وصححه الألباني .
بل إن الإيمان لا يكمل إلا بصدق هذه العاطفة ، وإخلاص هذه الرابطة قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ) رواه أبو داود .
ومن
أراد أن يشعر بحلاوة الإيمان ، ولذة المجاهدة للهوى والشيطان فهذا هو
السبيل ، ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن
يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ،
وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) .
والمرء يفضل على صاحبه بمقدار ما يكنه له من المحبة والمودة والإخاء ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ) رواه ابن حبان وصححه الألباني .
وأما
الجزاء في الآخرة فهو ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ، وقد أخبر - صلى الله
عليه وسلم - أن من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :
( رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) أخرجاه في الصحيحين .
محبة في الله
والأصل
في الحب والبغض أن يكون لكل ما يحبه الله أو يبغضه ، فالله يحب التوابين
والمتطهرين ، والمحسنين ، والمتقين ، والصابرين ، والمتوكلين والمقسطين ،
والمقاتلين في سبيله صفا ، ولا يحب الظالمين والمعتدين والمسرفين والمفسدين
، والخائنين ، والمستكبرين .
ولهذا فإن شرط هذه المحبة أن تكون لله
وفي الله ، لا تكدِّرها المصالح الشخصية ، ولا تنغصها المطامع الدنيوية ،
بل يحب كل واحد منهما الآخر لطاعته لله ، وإيمانه به ، وامتثاله لأوامره ،
وانتهائه عن نواهيه ، ولما سئل أبو حمزة النيسابوري عن المتحابين في الله
عز وجل من هم ؟ فقال : " العاملون بطاعة الله ، المتعاونون على أمر الله ،
وإن تفرقت دورهم وأبدانهم " .
والمحبة في الله هي المحبة الدائمة
الباقية إلى يوم الدين ، فإن كل محبة تنقلب عداوة يوم القيامة إلا ما كانت
من أجل الله وفي طاعته ، قال سبحانه :{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }(الزخرف
67) ، وقد روى الترمذي أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال : يا محمد ، الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ، فقال - صلى الله عليه
وسلم - : ( المرء مع من أحب ) .
وأما من
أحب شخصا لهواه ، أو لدنياه ، أو لمصلحة عاجلة يرجوها منه ، فهذه ليست محبة
لله بل هي محبة لهوى النفس ، وهى التى توقع أصحابها فى الكفر والفسوق
والعصيان عياذاً بالله من ذلك .
أمور تعظم بها المحبة
وهناك
أمور تزيد في توثيق هذا الرباط العظيم وتوطيده ، حث عليها النبي - صلى
الله عليه وسلم - ومنها : إعلام الأخ - الذي له في نفسك منزلة خاصة ، ومحبة
زائدة عن الأخوة العامة التي لجميع المؤمنين بأنك تحبه ، ففي الحديث : ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله )
رواه الإمام أحمد وصححه الألباني وفي رواية مرسلة عن مجاهد رواها ابن أبي
الدنيا وحسنها الألباني ( فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة ) .
ومنها
تبادل العلاقات الأخوية ، والإكثار من الصلات الودِّية ، فكم أذابت الهدية
من رواسب النفوس ، وكم أزال البدء بالسلام من دغل القلوب ، وفي الحديث ( تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ) رواه مالك في الموطأ ، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) رواه مسلم .
حقوق المحبة
وهناك
حقوق بين المتحابين توجبها وتفرضها هذه المحبة ، ويُسْتَدل بها على صدق
الأخوة وصفاء الحب ، منها : أن تحسب حساب أخيك فيما تجره إلى نفسك من نفع ،
أو ترغب بدفعه عن نفسك من مكروه ، وقد أوصى النبي- صلى الله عليه وسلم-
أبا هريرة بقوله : ( وأحب للمسلمين والمؤمنين ما تحبه لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، تكن مؤمنا ) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني .
ومنها ما تقدمه لأخيك من دعوات صالحات حيث لا يسمعك ولا يراك ، وحيث لا شبهة للرياء أو المجاملة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل ) رواه مسلم ، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه ، دعا لأخيه بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب ويحصل له مثلها .
ومنها
الوفاء والإخلاص والثبات على الحب إلى الموت ، بل حتى بعد موت الأخ
والحبيب ببر أولاده وأصدقائه ، وقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم -
عجوزاً جاءت إليه ، وقال : ( إنها كانت تغشانا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان ) رواه الطبراني ، ومن الوفاء أن لا يتغير الأخ على أخيه ، مهما ارتفع شأنه ، وعظم جاهه ومنصبه .
ومنها
التخفيف وترك التكلف ، فلا يكلِّفْ أخاه ما يشق عليه ، أو يكثر اللوم له ،
بل يكون خفيف الظل ، قال بعض الحكماء : " من سقطت كلفته دامت ألفته ، ومن
تمام هذا الأمر أن ترى الفضل لإخوانك عليك ، لا لنفسك عليهم ، فتنزل نفسك
معهم منزلة الخادم " .
ومنها بذل المال له ، وقضاء حاجاته والقيام
بها ، وعدم ذكر عيوبه في حضوره وغيبته ، والثناء عليه بما يعرفه من محاسن
أحواله ، ودعاؤه بأحب الأسماء إليه .
ومنها التودد له والسؤال عن أحواله ، ومشاركته في الأفراح والأتراح ، فيسر لسروره ، ويحزن لحزنه .
ومن
ذلك أيضاً بذل النصح والتعليم له ، فليست حاجة أخيك إلى العلم والنصح بأقل
من حاجته إلى المال ، وينبغي أن تكون النصيحة سراً من غير توبيخ .
وإن
دخل الشيطان بين المتحابين يوماً من الأيام ، فحصلت الفرقة والقطيعة ،
فليراجع كل منهما نفسه ، وليفتش في خبايا قلبه فقد قال عليه الصلاة والسلام
: ( ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني .
هذه
بعض فضائل المحبة في الله وحقوقها ، وإن محبة لها هذا الفضل في الدنيا
والآخرة لجديرة بالحرص عليها ، والوفاء بحقوقها ، والاستزادة منها ، {والذين
جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا
تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } (الحشر 10) .