تصاعدت في الآونة الأخيرة حوادث إطلاق النار التي يقوم بها جنود أردنيون ضد جنود سوريين على الحدود، وهذه الحوادث ليست مصادفات بل هي مجرد تهيئة لاستقدام قوات حلف الناتو إلى الحدود الأردنية-السورية.
بالأمس زار وزير الدفاع الأميركي الأردن قادما من إسرائيل، وخلال هذه الزيارة تم الاتفاق على أن ترسل أميركا قوات إلى الحدود الأردنية-السورية بهدف “تدريب القوات الأردنية” على حماية الحدود.
طبعا القوات الأردنية ليست بحاجة لتدريب وهذا الكلام هو مجرد ستار لتبرير إنشاء قواعد أميركية على الحدود السورية.
حلف الناتو لديه الآن قواعد على الحدود التركية-السورية تقوم بتدريب وتسليح وقيادة المتمردين السوريين، وأميركا تريد نقل هذه التجربة إلى الحدود الأردنية أيضا.
قواعد حلف الناتو في تركيا حققت إنجازات لا بأس بها ونجحت في خلق بلبلة كبيرة جدا في محافظات حلب وإدلب واللاذقية. أميركا تريد خلق بلبلة مماثلة على الحدود الأردنية. هي تريد تكرار سيناريو لواء التوحيد في محافظات درعا وريف دمشق والقنيطرة.
الهجوم الذي شنه لواء التوحيد على حلب أربك سورية بشدة وهز النظام السوري في صميمه. أميركا أعجبت بهذه التجربة وهي تريد توسيعها لكي تصبح هجوما متزامنا على مدينتي دمشق وحلب.
أميركا تخطط لشن هجوم واسع على مدينتي دمشق وحلب انطلاقا من قواعد حلف الناتو في الأردن وتركيا. المتمردون السوريون سوف يكونون في واجهة هذا الهجوم ولكن العمل الفعلي والتسليح والتوجيه سوف يكون من حلف الناتو، تماما كما حدث في ليبيا. في ليبيا الإعلام أظهر أن المتمردين هم من أسقطوا طرابلس ولكن الواقع هو أن قوات حلف الناتو هي من أسقطتها تحت ستار المتمردين.
أميركا ترى أن شن هجوم واسع متزامن على مدينتي دمشق وحلب من شأنه وضع إحدى المدينتين على الأقل تحت سيطرة حلف الناتو، وبعد ذلك سينشأ واقع جديد على الأرض يمكن أميركا من التفاوض مع روسيا على أسس جديدة. أميركا واثقة جدا من نجاح هذه الخطة إلى درجة أنها أوقفت التفاوض مع روسيا كليا وأنهت مهمة كوفي عنان.
إيران طبعا ترى ما يحدث وهي لهذا السبب غيرت من لهجتها في الآونة الأخيرة وبدأت تتحدث صراحة عن التدخل في سورية. مسعود جزائري قال عدة مرات أن إيران لم تتدخل بعد في الصراع السوري وأنها عندما تتدخل فإنها ستهزم المشروع الأميركي-الصهيوني.
هناك بين سورية وإيران اتفاقية دفاع مشترك، وإيران سوف ترسل بلا شك قوات إلى سورية في حال مضت أميركا قدما في مخططاتها. أميركا تراهن الآن على أن العراق لن يسمح بمرور قوات إيرانية إلى سورية عبر أراضيه، وموقف العراق من هذه المسألة هو بيت القصيد وهو “ساعة الحقيقة”. الإعلام لا يتحدث عن هذه القضية رغم أنها في الحقيقة أهم قضية في الشرق الأوسط ومن شأنها تحديد مصير المنطقة. إن سمح العراق بمرور قوات إيرانية إلى سورية فهذا سيصعب كثيرا على حلف الناتو احتلالها، ولهذا السبب أميركا حرصت على أخذ التزامات من العراق بأنه لن يسمح بمرور قوات إيرانية إلى سورية عبر أراضيه.
موقف العراق في هذه القضية هو موقف حاسم. إسرائيل وآل سعود كانوا في السنوات الماضية يرفضون انسحاب أميركا من العراق لأنهم كانوا يخشون أن يسمح العراق بمرور قوات إيرانية إلى سورية في حال اندلاع حرب بين سورية وإسرائيل، ولكن أميركا أخبرتهم وقتها بأنها حصلت على تعهدات من العراق بأنه لن يسمح بذلك. هم أصلا كانوا يظنون أن أميركا لن تنسحب من العراق أبدا وفوجئوا عندما تم الانسحاب العام الماضي، وهذا بالمناسبة هو السبب الرئيسي لهياجهم ضد سورية. أكثر ما يخيف إسرائيل وآل سعود هو اكتمال الجسر الواصل بين إيران وسورية لأن هذا من شأنه قلب الموازين في الصراع السوري-الإسرائيلي.
أنا قلت “الصراع السوري-الإسرائيلي” وليس “الصراع العربي-الإسرائيلي” لأن مصطلح “الصراع العربي-الإسرائيلي” هو مصطلح خادع لا علاقة له بالواقع. حاليا الدول العربية تنقسم إلى فئتين، فئة متحالفة مع إسرائيل بشكل علني أو شبه علني (السعودية، قطر، مصر، الأردن، إلخ) وفئة أخرى تلزم الحياد السلبي. لا يوجد أي دولة عربية تصارع إسرائيل منذ عام 1973 سوى سورية حصرا. صدام حسين كان معاديا لإسرائيل ولكنه لم يكن يصارعها وإنما كان يصارع إيران وأميركا. بالتالي لا يوجد شيء اسمه “صراع عربي-إسرائيلي”. هذا مصطلح تاريخي لا علاقة له بالواقع واستخدام هذا المصطلح حاليا هو خدمة مجانية لإسرائيل لأنه يغطي على حلفائها.
إسرائيل وآل سعود يصفون الصراع بأنه “إيراني-إسرائيلي” أو “شيعي-إسرائيلي”، وهم يصفون حتى حركة حماس بأنها إيرانية. مصطلح الصراع “الإيراني-الإسرائيلي” هو أيضا مصطلح خادع مضلل. إسرائيل لا تحب مصطلح الصراع “السوري-الإسرائيلي” لأن هذا المصطلح يجعلها في موقف ضعيف أمام الرأي العام العالمي، لأنها تحتل أراض سورية وعربية، أي أنها الطرف المعتدي في هذا الصراع. لهذا السبب إسرائيل روجت بالتعاون مع آل سعود لمصطلح الصراع “الإيراني-الإسرائيلي” لأنها تريد أن توهم العالم بأن مشكلتها هي مع إيران فقط وأن إيران دولة معتدية تريد مد نفوذها الديني إلى إسرائيل. إسرائيل وآل سعود مسخوا مفهوم الصراع العربي-الإسرائيلي وحولوه إلى مجرد خلاف ديني بين الشيعة واليهود. هم يروجون في العالم حاليا لمقولة أن إيران تريد خلق هلال شيعي في المنطقة وأنها تعادي إسرائيل لأسباب دينية تتعلق بنشر المذهب الشيعي. هذه الخرافة التي يرددها الصهاينة والوهابيون تهدف إلى نسف قضية الصراع السوري-الإسرائيلي وإظهار هذا الصراع على أنه مجرد فرع من المشروع الإيراني المزعوم لنشر المذهب الشيعي. هم يريدون أن يقنعوا العالم أن صراع سورية مع إسرائيل هو جزء من مشروع ديني يقوده الإيرانيون المتطرفون.
مصير الصراع السوري-الإسرائيلي سيحدده موقف العراق من قضية الجسر الإيراني إلى سورية. إذا سمح العراق بمرور قوات إيرانية إلى سورية فهذا سيقلب موازين الصراع، ولكننا لن نعرف موقف العراق الحقيقي إلا عندما يندلع الصراع بالفعل. أميركا تبدو واثقة من أن العراق لن يسمح بمرور قوات إيرانية عبر أراضيه.
أميركا على الأغلب ستحاول تكرار السيناريو الليبي في سورية. هي ستحاول أن تظهر هجماتها على سورية على أنها مجرد صراع داخلي سوري، ومن هنا يأتي دور الإعلام ومحاولة أميركا المستميتة للسيطرة على المناخ الإعلامي.
طبعا الدعم الإيراني مفيد، ولكنني شخصيا أعتقد أن الدفاع عن سورية ممكن حتى بدون الدعم الإيراني. المسألة بحاجة إلى قدر كبير من المرونة والتكيف، وهي صفات يفتقد لها النظام السوري تماما حيث أنه مشهور بعقليته الدوغمائية المتحجرة البعيدة تماما عن العلم والمنطق، وهذه العقلية هي سبب كل مصائب سورية وتخلفها. هي عقلية متخلفة لا تختلف شيئا عن عقلية الإسلاميين والوهابيين. العقلية العلمية تقوم على النقد والجرد والتحليل وتغيير الرأي بما يتوافق مع المعطيات الواقعية، أما عقلية النظام السوري فهي تقوم على تقديس الشعارات والآراء الثابتة. هي عقلية فاشلة سببت لسورية الهزائم وأوصلتها إلى الوضع الحالي. الثورة السورية لم تكن مفاجئة بل كانت أمرا متوقعا لطالما حذر منه الكثيرون، ولكن النظام بجموده وتصلبه أوصل نِفَسٌ ه إلى الكارثة. هو نظام لا يستوعب المتغيرات ويعيش دائما في حالة انفصال عن الواقع.
لو فرضنا أن أميركا شنت هجوما شاملا على دمشق وحلب انطلاقا من الحدود الأردنية والتركية فكيف سيكون موقف النظام السوري؟ هل سيقوى على صد الهجوم؟
الوضع السوري حاليا غير مستقر، وهو سيظل على هذا النحو لفترة طويلة. هناك كلام كثير عن الصفقة الإيرانية-الأميركية بعد الانتخابات الأميركية، ولكن يا ترى أين هو موقع سورية وقضيتها في هذه الصفقة؟ ما الذي يضمن أن الصفقة لن تكون على حساب سورية؟ أنا قلت من قبل أن الموضوع السوري هو أهم لدى أميركا من الموضوع النووي الإيراني، ولا أستطيع أن أتخيل صفقة أميركية-إيرانية على حساب إسرائيل. الصفقة إن تمت ستضمن حماية إسرائيل، وبالتالي هي لن تكون لمصلحة سورية.
مصلحة سورية لا يحققها إلا سورية ذاتها. المراهنة على إيران أو غيرها هو رهان خاسر سلفا.
لا أدري متى ستتوقف الحرب الأميركية على سورية، ولكن أميركا لن توقف هذه الحرب إلا عندما تضمن أن سورية أصبحت غير مهددة لإسرائيل. هذا يتحقق بسقوط النظام السوري أو بتقسيم سورية وتحويلها إلى دولة فاشلة.
نحن الآن نقف على أعتاب التقسيم، وأنا طرحت في السابق تصوري لكيفية التعامل مع هذه المرحلة. طالما أن أميركا تريد التقسيم فلنسايرها في ذلك ولكن لنجعل التقسيم ضد مصالحها. أميركا مثلا تريد خلق منطقة مستقلة في شمال سورية تكون تحت النفوذ التركي، وتريد خلق منطقة في جنوب سورية تحت النفوذ الأردني والإسرائيلي. هي بعد خلق هذه المناطق سوف تفاوض الروس وسوف تقول لهم خذوا الساحل واتركوا لنا المناطق التي تحت نفوذنا، وسوف يتم تفصيل حل لسورية على شاكلة اتفاق دايتون، أي أن سورية ستكون دولة واحدة بالاسم فقط. هي ستتحول إلى ملعب إقليمي وساحة لنفوذ القوى الخارجية. هذا مخطط استعماري كلاسيكي وهو بدأ يأخذ طريقه للتحقق في سورية الآن بشكل ملموس.
التعامل مع هذا المخطط يكون بتحويله ضد مصلحة أميركا. إذا كانت أميركا تريد خلق كيان في شمال سورية فليكن ذلك ولكن لنجعل هذا الكيان تحت نفوذنا وليس تحت نفوذ أميركا، ونفس الأمر ينطبق على الجنوب. هناك في شمال سورية قوى موالية للخط الوطني ومعادية لأميركا وتركيا، وهذه القوى يجب دعمها لكي تسيطر هي على المناطق الشمالية وليس أتباع أميركا. المخابرات الأميركية تقوم حاليا بتصنيف الميليشيات في شمال سورية حسب درجة ولائها لأميركا، وهي تسلح الميليشيات الأشد ولاء لها وتمنع السلاح عن الميليشيات الأخرى. هي تدعم أتباعها وتقويهم وتضعف الآخرين، والرد على ذلك يجب أن يكون بالعكس. يجب دعم وتقوية الميليشيات الموالية لسورية. مثلا حزب عبد الله أوجلان والعرب الموالون للدولة السورية يجب تسليحهم لكي يصبحوا هم الأقوى في المناطق الشمالية ويسيطروا على تلك المناطق في حال انسحاب قوات الدولة منها، ونِفَسٌ الأمر ينطبق على المناطق الجنوبية والشرقية.
أميركا تعمل الآن على إضعاف النظام السوري وإخراجه من مناطق الأطراف وحصره في الساحل، والنظام السوري يجب أن تكون لديه خطة للتعامل مع هذه المسألة بشكل واقعي وعملي. إذا جاء يوم واضطرت القوات الحكومية للانسحاب من مناطق الأطراف فيجب ألا تقع تلك المناطق تحت سيطرة حلف الناتو. يجب أن يعمل النظام السوري الآن على تعزيز اللامركزية الإدارية والاقتصادية والأمنية وأن يخلق حكومات محلية في مناطق الأطراف قادرة على ملأ الفراغ في حال انسحاب قوات النظام. هذا هو معنى إقحام الشعب في المواجهة والاعتماد عليه. لو فرضنا أن سورية تقسمت إلى كيانات شبه مستقلة فمن الأفضل أن تكون هذه الكيانات تحت سيطرة الخط الوطني وليس تحت سيطرة أميركا.
أميركا تريد الآن ضرب الدولة المركزية في سورية والقضاء عليها، والرد على ذلك يجب أن يكون بخلق حكومات محلية موالية للخط الوطني. إذا كان التقسيم واقعا فليكن التقسيم على أيدينا ووفق مصالحنا وليس وفق مصالح أميركا. أنا ذكرت في تدوينة سابقة كيف يمكن أن يكون التقسيم لمصلحتنا. إذا ذهب المستثمرون الحلبيون والشاميون والروس والإيرانيون والصينيون إلى الحسكة والسويداء واستثمروا فيهما فهذا أفضل بمليون مرة من أن يذهب الخليجيون والأتراك والإسرائيليون والأميركان لكي يبسطوا نفوذهم على تلك المناطق. فلتكن الخطوة الأولى منا وليس منهم.
طبعا النظام السوري لن يعجبه كلامي فهو ما زال يظن أنه سيسحق المؤامرة وسيبيد الإرهابيين وأن أميركا ستوقف حربها على سورية وستعود للتعامل معه وكأن شيئا لم يكن. هو سيستمر على هذا الوهم إلى أن يجد أن الحسكة تحولت إلى دولة برزانية والسويداء إلى دولة جنبلاطية ودرعا إلى إمارة وهابية وحلب إلى جمهورية إخوانية، وفي النهاية سيجد نِفَسٌ ه محاصرا في القرداحة وسيتمر في القول بأنه سيسحق المؤامرة.
الآن النظام سيستعيد حلب بعد أن يدمر قسما كبيرا منها، ولكن السؤال هو ماذا بعد حلب؟ ماذا عن القواعد الأميركية الجديدة في الأردن؟ هل هذه القواعد ستكون للفرجة فقط؟
الصراع طويل جدا وإذا استمر النظام على هذا الأسلوب فهو سينهار حتما وسيفقد السيطرة. أفضل حل لسورية الآن هو اللامركزية الوطنية. اللامركزية الوطنية أفضل من اللامركزية الاستعمارية التي تعمل أميركا بدأب على خلقها.