بائع متجول عنده كرامة أشعل ثورة الجياع والعاطلين في تونس وجعلهم لا يأبهون الرصاص الحي. يتلقونه في صدورهم ويموتون من أجل أن تجد الأجيال الجديدة نظاما يحترم آدميتهم ولا يربط بطونهم بأحزمة طمعه وشجعه.
موظفة في البلدية صفعت الشاب الذي يحمل شهادة البكالوريا على وجهه لتمنعه من الدخول على مكتب أحد المسئولين شاكيا مصادرة عربته التي يبيع عليها بعض الأشياء البسيطة، ويتعيش من عائدها الشحيح مع أسرته.
شبيه بما يحدث عندنا. كثيرون يعملون على العربات الكارو أو يفترشون الأرض ببضائعهم محاولين أن يعيشوا حياتهم بأقل القليل. ولكن الدولة التي تترك الفاسدين الكبار، لا تجد إلا هؤلاء لتطبق عليهم القانون فتطاردهم وتصادر وسيلة رزقهم.
ولكي يستمروا عليهم أن يدفعوا المعلوم للفاسدين الصغار. الفاسدون أيضا درجات. الفاسد الصغير يبلغهم بموعد حملة البلدية قبل أن تبدأ فيتوارون عن الأنظار وهكذا يفلتون.
شعر الشاب أنه فقد لقمة عيشه ثم كرامته فماذا يتبقى له. مثله في دول قريبة يضحون بلقمة العيش والكرامة ويؤثرون النجاة مع أنه لا نجاة ولا حياة بدونهما.
قام بحرق نِفَسٌ ه أمام مبنى البلدية. الموظفة التي صفعته تعرف أن المسئول الذي يريد أن يشكو إليه هو فاسد أيضا. وذلك المسئول فوقه فاسد من فوق فاسد!
إنه الَيّأِسً الذي تلبسه.. طريق صعب لن يصل لنهايته. فالدولة تحكمها عائلة وأصهار ومقربون ورجال أعمال مستفيدون تحت مظلة حزب حاكم وحيد مسيطر يشترك مع حزبنا في آخر اسمه "الديمقراطي" ويشبهه تماما الخالق الناطق.
رئيس أنجب البنات من زوجته الأولى ابنة الجنرال الذي صعد به وزيرا للداخلية في عهد بورقيبة 1986. وانجب البنات أيضا من زوجته الثانية "ليلى" التي منحته ولدا وهو في السبعين من عمره. لكنه جاء متأخرا ولن يسعف العائلة ورجال الأعمال المنتفعين لاتمام عملية توريث الحكم، فكان البديل هو زوج ابنة الرئيس رجل الأعمال الشاب صخر الماطر الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
حكم العائلة وخطط التوريث لم تترك شيئا أخضر لتونس الخضراء. فساد واستبداد وخنق للحريات وتزوير انتخابات وتمكين للحزب الأوحد وحرسه الجديد المتمثل في مجموعة الماطر لكي يخلو الجو تماما للوريث.
في كتاب "حاكمة قرطاج.. الاستيلاء على تونس" تحدث الصحفيان الفرنسيان نيكولا بو وكاترين غراسيه عن سيطرة عائلة ليلى الطرابلسي – زوجة بن علي – وعائلة الماطري – زوج ابنته – على الحياة السياسية والإقتصادية في تونس. فالسيدة الأولى تقوم فعليا بحكم البلاد وماطر – المدلل البالغ الثراء – يشرف على مناصب حساسة في الدولة مع أفراد من عائلة ليلى، ويرسم سياسة الحزب الحاكم.. هو مهندس تنظيم الانتخابات وضرب المعارضة وابعادها أو تهميشها. رغم صغر سنه وتجربته تمكن بمهارة عالية أن يعقد زواجا محكما بين السلطة والمال.
السيدة الأولى وزوج الابنة يحددان مصائر الناس. يرفعان البعض وينهيان البعض. يحققان الصفقات السياسية والاقتصادية فيما الرئيس مغيب تماما عما يجري، أو يعرف ولكنه لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم.
عندما اختلفت ليلى مع سهى عرفات أرملة الرئيس الفلسطيني الراحل التي كانت تقيم إقامة شبه دائمة في تونس، نزعت عنها فورا الجنسية التونسية عام2007 وأمرتها بالخروج فورا وأوعزت إلى الصحف التونسية بنشر قرارها.
كل ذلك بقي جاثما على صدر الشعب خانقا منه. لا يقاوم في ظل حكم بوليسي يفتش في الضمائر ويسترق الهمس. لكن البائع المتجول أيقظهم. شجعهم. جعلهم يخلعون الخوف.. فهبت ثورة الجياع والعاطلين عن العمل. التي لم تعترف بحدود فعبرت إلى الجزائر. وخشتها ليبيا بالأمس فلجأت إلى سلسلة اجراءات بدأت بالغاء الضرائب على الدقيق.
ثورة الشمال تخيف كثيرين ويترقبها كثيرون. فلم يكن هناك شعب يُظن فيه الخوف والرعب مثل التونسيين لما فعله فيهم النظام الذي ظل طوال السنوات الماضية يصطاد المحجبات والمنقبات من الشوارع، ويحارب كل مظاهر الإسلام، ويمنع ما أمر الله به بقسوة السجن وكرباج الجلاد.. لكنه شعب تحول فجأة إلى مارد مخيف لا يتراجع أمام الرصاص الحي الذي اصطاد منهم أكثر من 20 شخصا بدم بارد.
زين العابدين بن علي قال لشعبه الغاضب في خطابه أمس إن البطالة ليست حصريا على تونس. كأنه يقول أيضا لجيرانه إن الشجاعة وصرخة المظلوم المرعبة ليست حصريا على التونسيين.
الكلام لك يا جارة..!