أثارت الدكتورة سعاد صالح غضبا شديدا بعد حديثها في برنامج "مانشيت" بفضائية "أون تي في" الذي قالت فيه إنه لا يجوز دينيا وسياسيا أن يكون رئيس مصر في يوم من الأيام مسيحيا "لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا".
لا أدري ما هو مناسبة الحديث، ولماذا اصطادها جابر القرموطي، وما الذي جعل صاحب القناة نجيب ساويرس "لابد في الدرة" ليسمعها ثم يتصل معبرا عن غضبته العنيفة رافضا أن يصنف كمسيحي من الكافرين، محتفظا في نِفَسٌ الوقت بأدب الحديث ولياقته وهو يخاطبها بـ"حضرتك" بالرغم من كل ما قالته؟!
ثم ما الذي جعل كل هؤلاء المتداخلين يحتشدون لمشاهدتها والرد عليها على الهواء مباشرة، مع أن الدكتورة سعاد ليست شخصية نادرة الحديث، فما أن تفتح أي قناة حتى تطل عليك منها، مرة تتحدث في الحجاب وثانية في مساجد الفنانين وثالثة في يسرا ورابعة في سعد الصغير، ثم ها هي تتحدث في السياسة ورئاسة الدولة بعد أيام من انضمامها إلى حزب الوفد "العلماني"!
ليس هدفي اساءة الظن بالدكتورة فهي سيدة فاضلة عالمة، أعرفها وزاملت زوجها المرحوم الأستاذ السيد عبدالرؤوف رئيس التحرير السابق لصحيفة عقيدتي، وشقيقها الكاتب الصحفي صالح ابراهيم، وهي ذات علم وفقه متعمق، لكنها ربما تقع أحيانا ضحية لإعلاميين يبحثون عن "الصيد الثمين".. أي ذلك الموضوع الذي يثيرون به جدلا ويشعلون به حرائق وسط الماء البارد.
لا أصدق أن ساويرس يترك أعماله كلها.. شركاته ومكاتبه ومصالح البزنس الذي يدر عليه المليارات ليستمع إلى سعاد صالح إلا إذا كان يعرف أن المذيع جابر القرموطي سيصطادها بسؤال عن "الرئيس المسيحي" المرتقب لمصر، خصوصا أنها أصبحت وفدية، أي أنها تقبل المبادئ العلمانية للحزب الذي يفصل الدين عن الدولة منذ نشأته، ولا يجد بأسا في ولاية المسيحي والمرأة.
لم تكن الدكتورة سعاد حصيفة منتبهة للمصيدة، وهذا وضح على ملامح وجهها في نهاية الحلقة وهي تتلقى عاصفة الغضب العارم، بداية من المشاهدين، مرورا بنجيب ساويرس والقيادي الوفدي صلاح سليمان الذي تشاجر معها على الهواء، ولا أعرف أيضا ما الذي جعله يتفرغ لمشاهدتها أمام الشاشة ثم يتصل ليعلق غاضبا حانقا دون أن يعطيها الفرصة لتشرح وجهة نظرها، وعندما سمح لها أمام إصرارها على الكلام، كانت قد فقدت تركيزها وقدرتها على الجدل!
وكالعادة المادة الثانية من الدستور هي سبب كل بلاوي مصر!.. ما علاقتها بحديث سعاد صالح وغضبة ساويرس والقيادي الوفدي والمشاهدين المسيحيين؟!.. لا أعرف.. لكنها رأس المشاكل وعمودها وذورة سنامها عند نجاد البرعي الذي علق على تلك الأزمة المصطنعة بقوله "الحل الوحيد هو الغاء المادة التانية من الدستور المصرى ( مادة التشريع) حتى يستريح الجميع من القيل والقال"!
المادة المغضوب عليها كانت المنقذ للبرعي ونخلة وجبرائيل والبطريريكية الأرثوكسية في رفضهم لحكم القضاء الاداري بشأن الزواج الثاني للأقباط.. فكيف يريح وجودها هنا، ونستريح منها هناك؟!
الخلاصة عندي أن سؤال جابر القرموطي إفتراضي هزلي لأنه غير متاح حاليا أو في الأفق القريب أن يتولى رئاسة مصر مسلم آخر غير الرئيس الحالي، ناهيك عن أن يكون مسيحيا!
أذكر أنني عندما كنت طالبا في قسم الصحافة، حضرت مع زملائي ندوة بجريدة اللواء الإسلامي في عهد رئيس تحريرها المرحوم أحمد زين، أيام حضورها الطاغي في الشارع، وكان ضيف الندوة الأستاذ عمر التلمساني المرشد الأسبق لجماعة الإخوان عليه رٌحًمِة الله. سأله أحدنا سؤالا إفتراضيا فنهره بشدة، لكنه بطيبة قلبه وسماحته لاحظ تغير وجهه، فانفرد بنا بعد الندوة ليطيب من خاطر السائل أمامنا جميعا، ثم ينصحنا بطرح الأسئلة المنطقية الجادة التي تفيد سامعها وقارئها لا التي تضيع الوقت وتثير أزمات بلا فائدة ، قائلا لنا: هذا ما ننتظره منكم كجيل قادم في الإعلام.
الحكومة في حقيقة الأمر تبحث عن فزاعات وبعض الإعلاميين يساعدها في ذلك. كلما نصحها الغرب بالديمقراطية وصندوق الانتخابات النزيهة ترد بفزاعة صعود الإخوان، وها هي فزاعة جديدة تتولد من كلام أستاذة أزهرية وسطية غير متشددة، تبيح الغناء والتمثيل وشعر بيسرا وباروكة صابرين وأموال سعد الصغير ومساجد من عرق الراقصات، ومع ذلك ترى أن أكبر أقلية دينية في الشرق الأوسط ممثلة في المسيحيين، تصنف في خانة "الكفار" قائلة "لا يجوز ولاية الكافرين على المسلمين وفق الآية 141 من سورة النساء "… ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا".
سؤال القرموطي غير المنطقي أريد به فقط ما حذرنا منه التلمساني، فقد أحدث أزمة وخلق حالة من الجدل الديني في وقت تبحث فيه الأمة عن حقوقها الإنسانية المهدرة من السلطة، فبدلا من أن تجيش مشاعر جميع المصريين من أجل ألا يضيع دم خالد سعيد هدرا، حدثت حالة شقاق مفاجئة من لا شئ، انقسمنا بين قابل للرئيس المسيحي ورافض له ومكفر للآخر من الأمة، وبدلا من حديث نجيب ساويرس قبل أيام مع نفس المذيع وفي نِفَسٌ البرنامج عن حقوق الإنسان في مصر والديمقراطية والجناح التركي من الإخوان ممثلا في عبدالمنعم أبو الفتوح، مع أنه استدرك بأن الديمقراطية ستدفن إذا وصل الاخوان للحكم بالانتخابات النزيهة، سمعناه هذه المرة يخرج من "الدرة" ليقول لسعاد صالح في ثورة غضب ""يا دكتورة سعاد أنا علماني ولست فقيه لا في ديني ولا في دين الآخرين.. لكن إحنا المسيحيين منقبلش أبدا الكلام ده.. ولا يمكن أن يكون إنسان مؤمن بالله واحد ويكون كافر، أو أي حد يقول عليه كدة، غير كدة إحنا كمان منقبلش عدم المساواة في الحقوق كلها ومن حق المسيحيين أن أي منهم حد يترشح للرئاسة وينجح ويبقى الرئيس.. لأننا كلنا بنحمل جواز سفر واحد مكتوب عليه مصري.. وكلام حضرتك مستحيل نقبله أو نعمل بيه أو حتى نعترف بيه".
فترد عليه سعاد صالح وهي تعرف أنه صاحب القناة التي تستضيفها "متقبلوش بس الدين بيقول كدة".
طبعا سيثني البعض على هذه الحرية التي تجعل جابر القرموطي يسأل ضيفه في قناة صاحبها مسيحي سؤالا تكون إجابته تكفيرا له ولأهل دينه؟!
أنا على يقين ومن واقع خبرة ممارس في المهنة أن القرموطي لا يستطيع ذلك إطلاقا بدون خطة مسبقة تم تنفيذها بوعي كامل. إنه فقط كان يمثل علينا على طريقة القرموطي الأصلي "الفنان أحمد آدم" الذي سافر إلى بغداد وسقط في حفرة فوجئ فيها بصدام حسين!
لكن سعاد صالح هي من سقطت في حفرة "القرموطي" التايواني!