تاريخ جمعية "الكلمة" حافل بأعياد الخير والرٌحًمِة،والذين تتبعوا مراحل نشأة هذه الجمعية ورافقوا تطورها يذكرون جيداً تلك الأعياد ويعلمون ما قدمته هذه الجمعية من خدمات جلّى لهذه المدينة العريقة المحروسة في المآثر والمكرمات والخدمات الإنسانية.
تأسست جمعية الكلمة عام1924م على يد مؤسسها الأب بولس قوشاقجي.
وبعد سفره إلى الولايات المتحدة عام 1929م تسلم زمامها المحامي القدير فتح الله الصقال،فعمل بكل محبة ورعاية على تثبيت أركان الجمعية،فنشرها كجمعيةإنسانية. وأسس في الثلاثينيات دار العجزة التي تضم عشرات من المسنين والمسنات وأقامها على أرض تبرع بها للجمعية في محلة السبيل،فأمست حديقة غنّاء يعيش فيها المسنون بكل راحة وعناية وسلام.
ولقد كان من أهم ماقدمته "الكلمة" بعد هذه الدار لبلدها الطيب حلب،وللمرضى من كل بلد آخر،مستشفى الكلمة،الذي كان الشغل الشاغل لسيد الكلمة الراحل المغفور له الأستاذ فتح الله الصقال.فعمل مع مجلس إدارة الجمعية على تحقيق ذلك.
وفي سنة1944م وضع في حديقة الكلمة،غرسة ليست كالغراس،التي يضعها البستاني في جوف الأرض،وهذه الغرسة التي عمد إلى زرعها كلفته جهوداً متواصلة دامت ثماني سنوات كاملة،وأخيراً،انبعثت تلك الغرسة،فإذا هي بناية راسخة شامخة،تطل بطبقاتها الخمس على حديقة غنّاء تحيط بها،لتظل روادها بأشجارها الباسقة ولتبهج صدورهم بأزهارها العطرة الفواحة.
في صباح الاثنين26كانون الثاني1953م،فتح مستشفى الكلمة أبوابه على مصاريعها،ليستقبل كل من يشكو علة في جسمه،وليسعى أن يشفي كل مريض يلجأ إليه وكل من يدخل في الردهة الكبيرة،تقع عيناه فوراً على لوحة مرمرية نقش عليها باللغة العربية مايلي:
شعار مستشفى الكلمة
هل أنت عليل؟هل أنت بائس؟ليس لي أن أسأل عن عقيدتك ولا عن جنسيتك ولا عن مذهبك.أنت تتألم،وهذا يكفي.تعال لأضمك إلى صدري،تعال لأسعى أن أشفيك بكل ما أوتيت من علم وحب. (باستور)
لقد شاء مجلس إدارة الكلمة أن يتخذ شعاراً له،ما فاه به العالم العالمي الشهير باستور الذي أنار الكون بعمله الواسع الراسخ.ولا بدع،فإن قلبه الكبير،يفيض حناناً وشفقة على الإنسانية المتألمة بدون تفريق ولا تمييز.
وبدأ العمل في المستشفى على قدم وساق.وكانت أول معاينة له بالمجان.وكذلك أول عملية أجريت فيه فكانت أيضاً بالمجان.
وكان لي شرف الانتساب إلى جمعية الكلمة في عام1962م وقد أوكل إلي رئيس الجمعية الأستاذ فتح الله الصقال الإشراف على أعمال المستشفى فدونت له تقريراً شهرياً بالربح والخسارة.ولما اطلع عليه قال لي:"لا أريد أن أعرف ما ربحه المستشفى،المهم عندي أن تدون لي كم عملية جراحية أجريت بالمجان خلال الشهر".بهذه العقلية الإنسانية كان،رحمه الله،يدير شؤون جمعية الكلمة بشقيها:دار المسنين ومشفى الكلمة.
وقد عهد بإدارة مشفى الكلمة إلى راهبات فاضلات إيطاليات ثم إلى راهبات المعونة الدائمة فكن البلسم الشافي لمرضى المستشفى.
وقد اقترح أحد الإخوة المنتسبين إلى جمعية مشاريع الكلمة الخيرية،أن نجعل نسبة نحدد فيها الأعمال المجانية،التي سيقوم بها مستشفى الكلمة. فكان جواب رئيسها الأستاذ الصقال له:لا نسبة في ميدان الخير ولا قيد،فقد آلينا على أنِفَسٌ نا أن لا نرد مريضاً يتألم، فإذا كان في مقدور المريض أن يدفع مبلغاً يتناسب مع إمكانياته المادية،قبضنا المبلغ، وإلا المداواة ستكون لمجد الله وتسبيحه. ألم يقل المسيح:إن الفقير هو أنا ؟؟
فقال الصديق:ولكن هناك جهوداً بذلت مدة أعوام، وأموالاً طائلة أنفقت بمنتهى الاقتصاد، وديوناً فادحة تثقل كاهل المشروع.
فأجابه الصقال:إن ما أنفق من مال، قد أنفق في سبيل الخير والرٌحًمِة، والديون المترتبة علينا ستدفع من المال الذي سيأتينا من حيث لا نعلم ولا ندري.أما جهودنا وأما آلامنا فسوف ننساها حينما نرى أفواج المرضى، ولاسيما الفقراء منهم، يدخلون مستشفى الكلمة ويخرجون منه أصحاء سالمين.
تلك هي الشجرة التي زرعناها....والزرع هو الكلمة.
وهكذا استمر مستشفى الكلمة، بتأدية الخدمة الإنسانية التي لطالما هدف إليها. وإذا كان بعض المرضى يدفعون أجرة تتناسب مع حالتهم الاجتماعية، فإن بعضهم الآخر يعالج مجاناً. وكان فيه قسم الجراحة والأشعة والداخلية والتوليد والعظمية.
وازداد عدد الأطباء المتخصصين حتى كانوا في الخمسينيات يتجاوزون الثلاثين طبيباً في مختلف أنواع الاختصاص. ثم أصبحوا أكثر من خمسين طبيباً، واليوم حوالي المئة طبيب.
ولقد أصبح مستشفى الكلمة منذ الخمسينيات مؤسسة قومية، تهدف إلى المساهمة مساهمة فعالة في الخدمة الاجتماعية، وهو لكل فرد من أفراد الأمة، بدون تمييز ولا تفريق.
وكانت الجهود متواصلة في توسيع مستشفى الكلمة. وهنا فكر السيد فتحي أنطاكي الذي آلت إليه رئاسة الكلمة (بعد وفاة عميدها فتح الله الصقال) وأعضاء مجلس إدارتها، أنه لا بد من توسيع المستشفى، وتجهيزه بأحدث الآلات الجراحية والأدوات الطبية والصحية المعروفة في أرقى المشافي الأوروبية.
وانهالت التبرعات من كل صوب، وتم بناء الطبقات الإضافية الثلاث، بعد جهود مضنية، وتضحيات لا يعرفها إلا الله، وأولئك الذين رافقوا سير العمل منذ بدئه حتى انتهائه على الوجه الذي يرضيه عز وجل، ويرضي القائمين على إدارة مشاريع الكلمة الخيرية والمحسنين إليها معاً.
وقرر مجلس الإدارة أن يحتفل بتدشين الطبقات الثلاث بعد ظهر الجمعة الواقع في 14تشرين الأول1983م.
وكان حفل الافتتاح رائعاً جداً حضره المحسنون الذين اكتتبوا بغرف في الطبقات الإضافية الثلاث، والمدعوون الكرام وجلهم من كبار رجالات حلب وعلى رأسهم محافظ حلب الأستاذ محمد موالدي والمسؤولون في الحزب والدولة ونواب حلب الكرام وجمهرة الأطباء والراهبات والعاملين في المشفى وكنت يومها عريف الحفل.
وتحدث في هذا الحفل عدد من أدباء حلب وشعرائها فشكروا الجهود المبذولة في خدمة الإنسانية وأثنوا على المتبرعين. وقد أصدرت مجلة الكلمة عدداً خاصاً عن هذا الحفل التدشيني الكبير.
واليوم نرى مستشفى الكلمة الرابض على بقعة من أجمل بقاع حلب الشهباء بطبقاته الثماني وحديقته الجميلة، وأجنحته المتعددة الاختصاصات. ففيه أجنحة خاصة بأمراض الأطفال والقلبية والصدرية وأمراض الدم والجراحة العينية والتجميلية وجراحة الأوعية والتوليد وأمراض النساء وجراحتها والجراحة العامة والعصبية والبولية الأذن والأنف والحنجرة والأمراض الداخلية والجراحة العظمية والعناية المشددة. إضافة إلى التنظير الهضمي وغسل الكلى وقسم الإسعاف والتحاليل والتصوير الشعاعي الذي زود مؤخراً بجهاز طبقي محوري متطور، وعدة غرف للعمليات مجهزة بأحدث الأجهزة وصيدلية مركزية وكافتيريا حديثة. ويضم المستشفى أكثر من مئة سرير موزعة على الدرجة الممتازة والأولى والثانية والثالثة. وتشرف عليه راهبات فاضلات جديدات من رهبانية القديسة تريزيا ـــ لبنان، وإدارة مقتدرة.
هذا هو مستشفى الكلمة الذي مضى عليه أكثر من ستين سنة وهو يقدم الخدمة الطبية والرعاية الصحية في هذا البلد لكل مريض يأتيه من كل مدينة وقرية في سوريا وخارجها ..
بقلم: رياض عبد الله حلاق المدير العام لمجلة الضاد