مع التّقدير الفائق لكُلّ أدبٍ عربيٍ أصيل؛ إلا أنّنا في منطقة الخليج النّاضحة بالأحاسيس المُعتّقة، والأساطير اللذيذة، والحاضر الذي لا يتخلّى تاليه عن أوّله مُخلصًا لتاريخ الأصالة على هذه الأرض وخصوصيّتها الإنسانيّة والفكريّة التي لا يُمكن إدراكها في بقعةٍ أخرى من العالم؛ مازلنا نتوق لمُطالعةٍ أدبٍ خليجيّ جديدٍ يحمل روحًا تُشبهنا، ويرتدي لُغةً تعانق بساطتها ألوان المُعاصَرة. وهو ما قدّمته مجموعة "الدّيوانيّة" لمؤلّفها الكويتي "عبد الله البصيّص" (منشورات مؤسّسة الدّوسري للثّقافة والإبداع/2011م) في قالبٍ شهيٍ، سهلٍ مُمتنع، يجمع بين المُتعة والُفَائدَةِ وتقديم المعلومة الغريبة على طبق حكايةٍ واقعيّةٍ قصيرة، يذكُر المؤلّف أنّه سمعها على لسان أحد روّاد "ديوانيّة" من الدّواوين التي تُعتبر موروثًا مُجتمعيًا وثقافيًا لا يمكن تجاهل كيانه المؤثّر في المُجتمع الكويتي على وجه الخصوص. والتي أعرب المؤلّف في مُقدّمة كتابه عن أنّ اهتمامه بها كان سببًا في ميلاد هذا الكتاب قائلاً: " من هاهنا قرّرتُ أن أنقل على الورق بعض ما يجري فيها، وأضع ثقافتنا الخليجيّة في كتاب يحمل أبرز عواملها. هي ملامح للمجتمع الخليجي بلا ماكياج أو عمليّة تجميل، أضعها بين يدي القارئ ليطّلع على جمالها..صــ 14"
من هنا نرى أنّ لدى المؤلّف وعيًا واضحًا بمدى جمال ذاك النسيج الفُسيفسائي الذي اقتبس حكاياته من ألوانه، فالحكايات التّسع التي تضمنّها الكتاب عزفت على أوتار أكثر من مضمونٍ يجمع بين الصّورة المحليّة والهمّ العالمي باتّساع مضمونه. إذ تُفصح لنا حكاية "مشاري الصّاحي المجنون" في جُزئها الأوّل عن حكاية رُعبٍ لا تخلو ذاكرة الأجداد والآباء من شبيهاتها، بينما يأتي الجُزء الثّاني من الحكاية ليكشف عن لُبّ العقل في الجنون الظّاهر لبطل تلك الحكاية. ولا يسع القارئ إلا أن يستسلم للضحك على مواقف "علي الهبان" الطّريفة في بلاد الإنجليز، كما لا يسع صدره إلا أن يمتلئ بحُزنٍ حبيس أمام حكاية "القرية"، ويتذكّر مواقفًا غُبن فيها دونما جريرة مُقارنةً بحكاية "الموظّف"، ويُشارك حمود ناجي تساؤلاته الفلسفيّة إزاء العمر والأيّام في "الذّكريات لا تكبُر"، ويُكشف له النّقاب عن حقائق رهيبة قد تكون مُفاجئة حين يقرأ تصريحات الشّاب الذي "كان إرهابيًا"، وفوق كُلّ هذا يقرأ آراء عن السياسة قيلت في إحدى الديوانيّات، وآراء في الدّين من "كلام الصّالحين" سمعها المؤلّف في ديوانيّة أخرى. وبهذا يجمع الكتاب بين الحديث في شؤون الدّين، والسياسة، والفلسفة، والتّاريخ، والجان والجنون، والظّرف والدّعابة، ليجتاز القارئ صفحات الكتاب وقد قطف من كُلّ حديثٍ معلومة مُفيدة، أو طريفةٍ على أقلّ تقدير.