رحل صديقنا عبدالعال الحمامصي, لن نلتقيه بعد ذلك أبدا في سرادق تعزية, ولا في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة, ولن يغادر مكانه في عتمة( الجوريون) ويقترب بطيئا من مكاني لكي نتعانق ويسألني:
ـ عامل ايه دلوجيت؟
كنا التقينا آخر مرة في اجتماع لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة, جاء شاحب الوجه لا يتكلم, عرفنا أنه بانتظار السيدة زوجته لتسلم نتائج بعض التحاليل, كان يغالب الإغفاء كمن غلب أخيرا علي أمره, وعندما التقت عينانا عبر الطاولة الخشبية دهش كمن يراني أول مرة.
في المساء اتصلت بمنزله كي أطمئن وقالوا أنه نائم, وأن نتيجة التحليل لم تظهر بعد, وعلمنا جميعا أن المرض الذي انتشر يصعد الي رئتيه, وأن أحدا من المحيطين لم يخبره, وهو رحل دون أن يعرف.
كان بيننا نوع من الود الإنساني الصامت والعميق, وأظن أن هذه هي حال علاقته بالكثيرين, برغم ذلك لم تجمعنا طوال السنوات جلسة خاصة باستثناء اجتماعات اللجنة. المرة الوحيدة التي طال فيها كلانا كانت قبل أقل من أربعين عاما. كنت غادرت مبني المواصلات اللاسلكية بشارع رمسيس, وملت الي الشارع الجانبي الذي يفصل بينه ومعهد الموسيقي العربية. وجدته أمامي يحمل علي كتفه مجموعة من علب الأفلام المعدنية المستديرة والجو حار. عاونته علي إنزالها وتصافحنا. وقفنا زمنا عند السياج الحديدي نتحدث. كنا شبابا نسعي. الأحلام كبيرة والأوقات صعبة ولكل ما نوي, عرفت انه في طريقه لشركة الانتاج السينمائي في الجانب الآخر من الطريق حيث يعمل. وهو قال, ضمن ما قال: يا راجل, أنا عندي أربعين سنة دلوجيت, وأوضح أنه لو حسب الوقت الذي قضاه في جلسة حلوة مع فتاة, فسوف يجده لا يتجاوز عشر دقائق في هذه السنوات الأربعين: عشر دجايج يا إبراهيم أصلان, كان جميلا وطيبا, وبرغم بعض المآخذ كنت ابتهج برؤيته, وأحبه.
مشوار طويل شقه عبدالعال بالإصرار والمناهدة حتي حقق ما اعتقد أنها أحلامه إلا قليلا. النقطة الفاصلة كانت علاقته بالجنرال الراحل يوسف السباعي. بين اليسار المصري والسباعي ورجاله ما كان بينهما, لكن عبدالعال واحد مثلنا فلا يكرهه ولا يعنفه أحد. صار عضوا بمجلس إدارة اتحاد الكتاب منذ السبعينيات وسكرتيره العام حتي وقت قريب, وهو صاحب أعلي نسبة أصوات في أي انتخابات كانت, وهو السكرتير العام لنادي القصة ورئيس تحرير مجلتها, وهو سكرتير عام جمعية الأدباء والمشرف علي الصفحة الثقافية في عدة جرائد ومجلات أسبوعية ورئيس تحرير سلسلة كتب شهرية, وهو عَضّوِ لجنتي القصة والكتاب الأول بالمجلس الأعلي وجاب بعيد البلدان والكاتب الوحيد الذي يقام له في مسقط رأسه أخميم بمحافظة سوهاج مهرجان سنوي باسمه. الذين حضروا قالوا انه يستقبل وضيوفه من محطة القطار بزفة من الطبل والمزمار, وهو ظل غامضا بالنسبة لي ككاتب حتي أنني لم أصادف ما يكتب ولم أعرف أين يكتب. كان معجزة حقيقية تدب علي قدمين متعبتين. اختلف مرة مع مقرر اللجنة وصاح, ربما صيحته الأخيرة: أنا عبدالعال الحمامصي, جري إيه؟ وليس مهما الآن سبب الخلاف, المهم أنه تلفت قلي
لا في الصمت حتي التقط أنفاسه وكررها كأنه ينشج: أنا عبدالعال الحمامصي وأخرج من جيبه استقالة مكتوبة وضعها علي الطاولة وانصرف, وقد أسرع وراءه صديقنا يوسف القعيد لكي يستعيده الي موقعه.
والآن يصعب علينا جدا أن صارت الحياة الثقافية من دون عبدالعال الحمامصي.. يصعب علينا ألا نلتقيه في سرادق تعزية ولا في اجتماعات لجنة القصة, يصعب علي شخصيا ألا يشق طريقه في عتمة الجريون متكئا علي عصاه لكي يعانقني ويسأل: عامل إيه دلوجيت؟
آخرة المناهدة يا عبدالعال.